مقالات

رؤية هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية قِيَمٌ تُحيِي الأُمَم: “بناء الشخصية وأثرها في نهضة المجتمع” (5)

الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:

* التسامح: جسر العبور إلى التعايش السلمي

– التسامح قيمة أخلاقية عُليا تمثل جوهر التفاعل الإنساني السّليم، وهي الأساس لبناء مجتمعات متماسكة يسودها السلام والتآخي، فمن دون التسامح، تتحول الحياة إلى صراعات لا تنتهي، حيث يطغى فيها الكُرهُ والبغضاءُ والانقسام على روح المحبة والوحدة، ولذا، فإن التسامح يُعد جسر العبور إلى التعايش السلمي بين الأفراد والمجتمعات.

– معنى التسامح
التسامح يعني القدرة على تقبّل الآخر بمختلف معتقداته وأفكاره وثقافاته، والاعتراف بحقه في الوجود والتعبير عن ذاته دون قيود أو عداء، هذه القيمة لا تعني التخلي عن المبادئ أو التنازل عن الحقوق، بل تعكس نُضجًا فِكريًا وسلوكًا يعزز من العيش المشترك، وقد جاء الإسلام ليُرسي هذه القيَم بوضوح؛ إذ يقول الله تعالى: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ (فصلت: 34)، التسامح يتطلب أيضًا فهمًا عميقًا لمعنى الحرية، حيث لا يقتصر على قبول وجود الآخر فحسب، بل يتعدّى ذلك إلى الاحتفاء بالتنوع كعامل ثراء حضاري.

– أهمية التسامح في بناء المجتمعات
التسامح ليس مجرد فضيلة فردية، بل هو حاجة اجتماعية وضرورة حضارية لتحقيق التعايش السلمي. فبدونه، تصبح المجتمعات عرضة للتفكك والصراعات الداخلية. ومن أبرز فوائد التسامح:

1- تعزيز الوحدة الوطنية:
تسامح الأفراد مع اختلافاتهم يسهم في خلق بيئة تسودها المحبة، مما يقوي روابط الانتماء ويعزز اللحمة الوطنية.

2- الحفاظ على السلم الاجتماعي:
التسامح يقلل من احتمالية اندلاع النزاعات، ويعزز الحوار كوسيلة لحل المشكلات.

3- نشر ثقافة التعاون:
حينما يسود التسامح، يتحول المجتمع إلى ساحة تعاون وتبادل خبرات، مما يعزز الإنتاجية والتنمية.

4- تعزيز القيم الإنسانية المشتركة:
التسامح يبرز القيم التي تجمع البشر، كالمحبة والرحمة، مما يساعد على تجاوز الحواجز التي تفرق بينهم.

– أمثلة تاريخية مشرقة
لقد تجلى التسامح في حياة النبي محمد ﷺ بشكل مذهل، حيث تعامل مع المخالفين له بالعفو والحكمة. ومن أشهر هذه المواقف:
أ- عفوُه عن أهل مكة يوم الفتح:
حينما دخل مكة فاتحًا، قال لقومها: “اذهبوا فأنتم الطلقاء”، ليؤكد أن التسامح قوة لا ضعف.

ب- التسامح مع الأديان الأخرى:
حينما كتب النبي ﷺ وثيقة المدينة، أسس فيها لتعايش سلمي بين المسلمين واليهود، وأقرّ حقوق الجميع دون تمييز.

ج- عفوه عن الأعرابي:
حينما جذب الأعرابي ردائه ﷺ بغلظة وقال: “أعطني من مال الله الذي عندك!”، لم يرد عليه بالغضب بل أعطاه، ليؤكد أن التسامح خلق كريم.

-التسامح في مواجهة التحديات المعاصرة
في عصرنا الحالي، أصبح العالم أكثر تداخلًا، مما جعل قيمة التسامح ضرورةً مُلِحة لمواجهة التحديات الاجتماعية والسياسية. ومن أبرز صور هذه التحديات:

1- التطرف والإرهاب:
حيث أنّ انتشار الأفكار المتشددة يجعل التسامح السلاح الأقوى لمواجهتها، من خلال تعزيز قيم الحوار والاعتدال.

2- الصراعات الثقافية:
في ظل التنوع الثقافي، التسامح هو السبيل الوحيد للتعايش بسلام دون أن يشعر أي طرف بالتهميش.

3. التحريض الإعلامي:
الإعلام السلبي قد يكون سببًا لتأجيج النزاعات، وهنا يأتي دور التسامح كقيمة لتقويض هذه الأفعال.

– كيف نُعزز التسامح؟
لإحياء قيمة التسامح في المجتمع، يمكن اتخاذ خطوات عملية تشمل:
1- التربية على التسامح:
تعليم الأطفال منذ الصغر تقبل الآخر واحترامه.

2- تعزيز الحوار:
إنشاء منصات للحوار الثقافي والديني تساهم في تقارب وجهات النظر وتعزيز فهم التنوع.

3- دور الإعلام:
تسليط الضوء على قصص التسامح الملهمة بدلًا من التركيز على مظاهر الصراع والانقسام.

4- القدوة الحسنة: تعزيز نماذج شخصيات تاريخية ومعاصرة كانت مثالًا في التسامح.

– وفي الختام
التسامح ليس خيارًا يمكن تجاوزه، بل هو الجسر الذي يربط القلوب، ويهيئ الطريق لبناء عالم أكثر عدلًا وسلامًا. قال الله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ (الحجرات: 13)، فالتعارف والتعايش هما ثمرة التسامح الحقيقي، إن مسؤولية بناء مجتمعات قائمة على التسامح تبدأ من كل فرد، من خلال تجاوز الخلافات الشخصية، والعمل على ترسيخ القيم المشتركة التي تضمن مستقبلًا آمنًا ومشرقًا لأجيالنا القادمة.
عنوان مقالة الغد إن شاء الله: “الصبر: الوقود الخفي للإنجازات الكبرى”
* طاب صباحكم، ونهاركم، وجميع أوقاتكم، وفرّج الله عن أهلنا المستضعفين إن شاء الله
مقالة رقم: (1835)
08. رجب . 1446هـ
الأربعاء .08.01.2025 م
باحترام:
د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق