اقلام حرةالرئيسية

نوستالجيات / بقلم الاعلامية حنان العريض / تونس

ذات جوان، تحصلت على شهادة بكالوريا رياضيات.. وبتأكيد شديد كانت اختيارتي السبعة الأولى للتوجيه الجامعي اختصاص مركّب أُدمجت فيه 4 استاذيات ألا وهو: رياضيات- فيزياء- كيمياء- اعلامية. حظيت بالإختيار الأول بالدار العليا للمعلمين ببنزرت (École Normale). اختصاص دقيق وصعب وعُرف بإسم mission impossible. نعم كان كذلك. أذكر جيدا ان اول امتحان ميكانيك عام Examen mécanique général تحصلت فيه على 9.5/20 وكان العدد الثاني بعد 10.25 لزميل. أما أعداد باقي زملائي كانت دون 6 من عشرين. كنا أكثر من 1000 طالب. أذكر جيدا ان النتائج ازعجت وزير التعليم العالي حينها الذي جاء في زيارة فجئية للكلية ارتعدت لها الادارة من هول رداءة النتائج. كانت سنة قاسية إذ تحصلت على معدل 11.69 بتضحيات كبرى. كل العلوم مختلفة عما عرفناه سابقا. فقد انتقلنا من مرحلة المسلمات إلى مرحلة البناء( structure et construction) والتحليل (analyse) والاحتمال (probabilité).
مرت باقي الأعوام بحلوها ومرها ولكن لذّة طلب العلم والمعرفة تجعلك تتجاوز كلّ مرّ.
تحصلت على شهادة الأستاذية. تقدمت لمناظرة الدخول لمرحلة التبريز بـ EPST.
دخلت عالم التدريس. كانت البداية بالتعليم بمركز خاص بالدروس الخصوصية بالمنزه1. درست تلامذة المدارس الإعدادية والمعاهد العمومية والخاصة والنموذجية والاجنبية وطلبة الجامعات. لا أذكر اني اعددت درسا مسبقا او سلسلة تمارين. كل ذلك كان وليد اللحظة. كان صاحب المركز بمجرد دخولي المركز يُعلمني بجدول ذلك اليوم. عملت بشغف كبير وحب أكبر للعلم والمعرفة لم يكن يعنيني المال بقدر نجاح وتميز تلامذتي وفي كثير من المناسبات درست مجانا حيث ان تحول تلميذ من عدد ضعيف إلى عدد يتجاوز 15 كان يُغنيني عن أخذ مقابل مادي.
تطورت التجربة وذاع إسمي لدى الأعيان وأصبح لي أصدقاء استثنائيين. توطدت علاقتنا وأصبحت جزء من عائلاتهم. أذكر اقربهم إليا ولايزال جينرال بالجيش الوطني (متحصل على بكالوريا زايد 15) درست له إبنه في بيتهم. أذكر كيف كان يأتي لبيتي ليصحبني إلى بيتهم اسبوعيا في نفس الموعد. كم كنت سعيدة بتلك الرحلة التي نتناقش فيها في جميع المشاغل العامة للوطن وقضايا أخرى في علاقة بالتعليم وغيره. وكيف لا أسعد وأنا في سيارة تحمل علم بلادي في لوحتها المنجمية. في بيتهم أجواء اخرى مع ابنه وزوجته. لم أعرف طيبة وكرما ونُبلا ورفعة بذلك المستوى.
عرفت عائلة أخرى رفيعة جدا. الزوج موريتاني خبيرا لدى الأمم المتحدة والزوجة تونسية مديرة المدرسة الوطنية للإدارة اما ابنهما فهو ابني اكثر منهما. عائلة لا تقل في وصفها عن عائلة الجينرال. وبينهما عائلات أخرى كثيرة كُثر تباينها وتشابهها.
اليوم يعود لي الحنين للتدريس وترك الإعلام. عالم التدريس له سحر خاص. ولأستاذ الرياضيات رفعة وبرستيج وتقدير يصنعه لك الآخر مهما كان مستواه العلمي والاجتماعي والاقتصادي قبل ان تصنعه لذاتك. كلهم يعاملوك بتقدير واحترام وحديث فيه ميزان دقيق للألفاظ. نعم فهم يستحضرون قول الشاعر قم للمعلم وفه التبجيل. كيف لا وانت استاذ يعتبروك استثنائيا. كم احببت كبار العقول والأخلاق. هؤلاء ينتزعون منك الكبر واللاخلاق ويزرعون فيك التواضع وخدمة الناس وحب الوطن وحب عملك. وإلى يومنا هذا مازلت أحب الرياضيات. وكل التفاصيل حية في ذاكرتي من الاعدادي إلى الجامعة مرورا بالثانوي ولا احتاج مراجعة ولا فتح كتاب للتثبت. بعد الكثير من الانتهاكات، أصبحت أفكر في العودة إلى عالم الأستاذ المحترم المبجل في المجتمع.
حين غادرت الرياضيات، كانت لدي طموحات أخرى. درست تكنولوجيا الاتصال وإدارة المؤسسات بكامبردج. الحصول على الشهادة لم يكن هينا. أذكر أننا نجحنا 3 مترشحين فقط. أمرا آثار انزعاج اللجنة المشرفة على مكتب شمال افريقيا والشرق الأوسط بتونس. ولتدارك الامر، اعادوا الإمتحان للراسبين بعد نصف ساعة لعلهم يتجاوزون عثراتهم.
تجارب أخرى عديدة ومتنوعة مع منظمات اممية ودولية. مسيرة حافلة بمفاهيم القانون وحقوق الإنسان.
مؤخرا، اختتمت تعلم علوم السياسة بمركز الدراسات الدولية والمتوسطية ومعهد السياسة التابع للمجلس الاوروبي. قبل حبك للدراسة، تجد نفسك مُحبا للإدارة بمختلف مشرفيها. قبل ان يكون معهد السياسة هو أكاديمية الأخلاق والاحترام والضوابط الأخلاقية والتعامل مع الآخرين على نفس المسافة وفق القانون الداخلي للمعهد. لا يحق لك ذكر حزب بإسمه او سياسي في سياق نقد سلبي أو إيجابي أو اطراء او و أو. كل ذلك غير مسموح به. الجميع متساوون في الحقوق والواجبات أمام القانون.
الحمد لله اني حيث درست وعملت تركت انطباعا طيبا مميزا وكنت فخرا لهم كما أنهم فخرا لي.
في الإعلام، الأمر مختلف كثيرا. حين جئت بذلك الموروث المعرفي، كنت مضطرة لدعمه بدورات تدريبية في الصحافة والمسرح والسينما والتقنيات الأخرى (مونتاج وتسجيل وتصوير). رغم ان شهادة الاستاذية كانت كافية. ففي قانون الإعلام، 80•/• هم صحفيون و20•/• من باقي الاختصاصات منهم 5•/• من الشعب العلمية. وهنا وجدت شرعيتي رغم ان في الاعلام عامة والإذاعة التونسية خاصة من هم دون الباكالوريا ودونها بكثير وهم ناجحون مميزون ولهم ثقلهم. كثيرون رأوا في مهارات ومهنية عالية وآخرون رأوا عكس ذلك. لم يكن يعنيني الأمر كثيرا (فكله اجتهاد بشري). بقدر ما كان يعنيني تواصل تعلمي ومتابعة كل تطور تقني في علاقة بالاعلام والانفتاح على مزيد من التخصصات وتعلمها.
معارف ومهارات اكتسابها ضرورة ملحّة وليست ترفيها أو مضيعة للوقت.
وأنا أحنّ للعودة لعالم الرياضيات والتدريس في الخاص او الجامعات، كيف سيكون المستقبل المُّوشح بماض زهريٍ؟
وهل سيكون طلاق الإعلام لحفظ الكرامة المنتهكة خيارا صائبا في هذا الوقت؟ ام أنّها مرارة الاعتداءات وتواترها على مدى خمس سنوات تدفعك للبحث عن حفظ الذات وسط عالم قد تغيرت معادلاته هو الآخر؟ ربما. ولكني لا أعتقد أن برستيج أستاذ الرياضيات وخاصة في الجامعات قد تغير. هو ينظر للأشياء بفوقية عالية مجرّدة لا يُقابلها إلاّ تقدير وتبجيل الآخرين له. علاقة جدلية في مضمونها وإن اختلفت أشكالها.
تحية لكلّ من علمني شيئا وسهر من أجل ذلك وإن لم يكن من رجالات التعليم. وتحية لوالدي رحمه الله عدد كلماته ومداد بحاره حين قال لي: بشهادة الرياضيات، حِل حتى قراج قري فيه دروس خصوصية المهم راسك عالي واخلاقك قبل كل شي.
وأنا نقلك يا بابا، نبيع حتى الملاوي وراسي عالي وحسبي الله ونعم الوكيل في كل من اعتدى وانتهك مثقال ذرة من حقوقي
#حنان_لعريض

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق