مقالات

ليلة الرحيل / بقلم فاطمة كمون – تونس 🇹🇳

ما بال هذه الذكريات تنازعني وتأبي الرحيل ..؟
أخفي في جيبي كثيرا من السكون في مثل هذا التوقيت منذ خمس سنوات ، أقظم منه بعض الذكريات في صخب الصمت..وهج الوجع الجريح و قافيات الصراخ المتحشرجة تفزعني وتكسر أعمدة هدوء نفسي… الصراخ بصمت،وجه ألم يبحث عن ضوء أضناه اللهاث ..
يكبر بي ذاك الحلم أن أستطيع يوما أن أرسم الأصوات، وأحتفظ بها في لوحة معلقة انظر اليها كلما أشتاق …أحلم أن أخون الغياب وألتقي مع كل من فارق طريقي… مرت خمس سنوات وكل التفاصيل تكبر داخلي كل يوم مع صورة وحدث وحكاية ، في مثل هذا اليوم كان الوضع الامني حرجا ، حظر تجوال تم إقراره ، لا أدري ما أفزعني وقتها أكثر من أي وقت سبق وأي حدث لحق، شارع متحفز لردة فعل وانا قلبي متجه صوب أهلي مدينتي التي لم أشعر بفراقها الا وقتها، أفكر كيف أخطف عقارب الساعة لتكون لي كمكنسة ساحرة، كنت هناك من أقل من أسبوع لكني عدت جسدا بلا روح، تركت قلبي منفطرا كان رحمه الله يصارع التنفس يستجديه أن يمنحه زفرات ،حالة الربو التي أصرت أن تتمسك به أكثر من أي وقت مضى .. عدت ودمعي متحجر وأنتظر خبر ولكن أكره تصديقه،…
خاطبته في هذا الوقت تحديدا لم تكن له رغبة بمجاراة بعض الهبل الذي كنت أمارسه كلّما اتصلت به ، لم يسألني يومها عن ثمن الريح وبكم تسعيرته في سوق البورصة ..(كان ردي بإطناب وسخرية عن الريح وكم هي تجارة مربحة وأنا أبيعه بالمزاد للمراكب والكل ينتظر دوره لأن السلعة التي أملها نادرة جدا ومتقنة ) حين يسألني ماذا افعل .. ليضحك ويقول ولله لن تكبري وان جدلت كل ظفائرك شيبا وكان لي “طزينة” أحفاد.. سألني عن أولادي بصعوبة وتقطع في الصوت كنت أرد بغصة تقول لي لن تسمعي صوته كثيرا بعد الآن ، ويكابر ويقول انه بخير وافضل من السابق بكثير.. أعطى الهاتف لوالدتي التي أعلمتني ان مختص العلاج الطبيعي غادر من وقت قصير وأنه لم يكمل الحصة قائلا لم يعد له جهد ..كانت تلك الكلمة كفيلة بأن تجمع دموع الدنيا في عينيّ وتدفع بالغصة الى حلقي وسكت الكلام..أضافت والدتي انهم ينتظرون في الطبيب ، قلت سأكلمكم بعد قليل قالت لا حين يأتي سنعلمك بما قال .. تذكرت أني لم اسال عن صحتها وهي التي لم يمر أسبوع على حصة علاجها الكيمياوي.. استدركت وكأنها فهمت قالت شيء ينسي شيء ان شاء الله يقوم بابا لباس ومتقلقش روحك كلنا بحذاه وحتى انت حاضرة وان لم تكوني بيننا..
لا أدري كم استغرقت المكاملة ما اتذكره ان انطفاء الضوء على لوحة الهاتف اعلانا بانتهاء المكالمة ذاك اليوم كانت قلبي يؤلمني وصداع مسك تلابيب رأسي احسست زلزالا هزّ كل كياني يرتج بشدّة وتردداته تنعكس على جسمي المنهك بلا داء..
كان الوقت والحظر والمسافة يستفزونني ويقيدونني بتحدّ..
لا ادري لم هذه التفاصيل لا تتركني ترقص أمامي مثل عصفور الساعة على ايقاع وجع الغياب.. رحمك الله بابا فارقتنا من 5 سنوات نعم ولكن فراغ مكانك يتعاظم .. ما سمعت “تتومة “بعدك من احد ولا “فاطم” .. ما رن هاتفي يسأل بالحاح عن غيابي اذ مرّ يومان ولم أسأل..ما عدت أضحك كما قبل فقد أخذت معك رنّات الضحكات كان يطلب مني الكفّ عن ذلك كأنك يا أبي أخذت معك كل تلك الطفولة التي أحبها بهبلها ..رحمك الله بابا أقسم اني كبرت أكثر مما كنت أتصور وكأن هذه المدة على فراقك عدلت بوصلة الزمن وأعادتني الى مسارها منتقمة من تمردّي عما فات..كبرت حتى أنّني اصبحت أشعر ان الضحك يشقق شفتاي ويحفر التجاعيد أكثر رحمك الله بابا ما اصعب فراقك مع اني لست وحيدة ،والكل يتفنن في ملء الفراغ.. لكنّني بقيت طفلة تنظر الى الطريق بلهفة لإستنشاق رائحة الأب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق