مقالات

لكي لا ننسى محاكم التفتيش بقلم علي الشافعي

لكي لا ننسى محاكم التفتيش بقلم علي الشافعي
في صلاة الأحد 12/3/2000م اعترف البابا يوحنا بولس الثالث بأن الكنيسة قد ارتكبت عبر محاكم التفتيش ذنوبًا وأخطاءً بحق الآخرين , خلال الألفية الماضية ، باسم الدفاع عن الإيمان ، وطلب أمام الملأ الصفح والغفران من الله . وبدوره الرئيس البرتغالي جورج سمبابو اعتذر ايضا عن جرائم أجداده بحق العرب أثناء محاكم التفتيش ، جاء اعتذاره في معرض خطبة ألقاها في حفل افتتاح ندوة التراث العربي مايو 1997م . فماذا يعرف شبابنا عن محاكم التفتيش ؟ وكيف واين ؟ تعالوا ننفض الغبار عن تراث الاجداد لنعرف ما فعلت بهم تلك المحاكم :
فتح المسلمون الاندلس بقيادة طارق بن زياد عام 711م , واستمرت الحملات تباعا حتى سنة 726م , فاستولوا على مناطق واسعة من إسبانيا والبرتُغال وجنوب فرنسا المُعاصرة ونشروا الاسلام على ارضها . ثم عقدت معاهدة (أريولة ) في رجب 94 هـ بين عبد العزيز بن موسى بن نصير والقوط الغربيين . نصت المعاهدة على حرية أهل الذمة في ممارسة شعائرهم الدينية المسيحية ، وعدم الاعتداء على اموالهم ديارهم وكنائسهم ما داموا يؤدون الجزية , ولم يتعاونوا مع أعداء المسلمين . لذلك قام المسلمون ببناء مدنهم خارج العمران الاسباني .
استمر حكم المسلمين 800 عام للأندلس من دون انقطاع ، ما سجل التاريخ انتهاكا واحدا لهذه المعاهدة . ثم تكالب القوط بقيادة فردناند وزوجته ازبيلا فانهارت الدولة الإسلامية في الأندلس , وكانت غرناطة اخر معاقل المسلمين , سقطت بيد الفرنجة بعد معاهدة صلح تضمنت ثمانية وستين بنداً , منها تأمين المسلمين على النفس والمال والأهل ، وإبقاء الناس في أماكنهم ودورهم وعقارهم ، وأن تبقى لهم شريعتهم يتقاضون فيها، وأن تبقى لهم مساجدهم وأوقافهم ، وألا يولى على المسلمين إلا مسلم، وأن يُطلق سراح جميع الأسرى المسلمين ، وألا يؤخذ أحد بذنب غيره ، وقد وقع على المعاهدة الملك الإسباني والبابا في روما ، وكان التوقيعان كافيان لكي تكون المعاهدة ضمانة للمسلمين في إسبانيا ، وبناء على هذه المعاهدة خرج أبو عبد الله بن أبي الحسن ملك غرناطة صباح يوم 2/1/1492م ، وسلم المدينة .
لكن الإسبان نقضوا المعاهدة قبل ان يجف مدادها ، إذ كان أول عمل قام به الكاردينال مندوسيه ( اسقف الكنيسة الكاثوليكية ) عند دخوله المدينة هو نصب الصليب فوق أعلى أبراجها , وترتيل صلاة الحمد الكاثوليكية . وبعد أيام أرسل أسقف غرناطة رسالة عاجلة للملك الإسباني يعلمه فيها أنه قد أخذ على عاتقه حمل المسلمين في غرناطة , وغيرها من مدن إسبانيا على أن يصبحوا كاثوليكًا ، تنفيذًا لرغبة السيد المسيح الذي ظهر له في المنام , وأمره بذلك كما ادَّعى , فأقره الملك على ذلك , فبدأت المحنة , اذ بادر الأسقف إلى احتلال المساجد ومصادرة أوقافها ، وتحويل المسجد الجامع في غرناطة إلى كنيسة ، فثار المسلمون هناك دفاعًا عن مساجدهم ، فقُمِعوا بوحشية مطلقة ، وتم إعدام مائتين منهم حرقًا في الساحة الرئيسة بتهمة مقاومة المسيحية . ثم شكلت (محاكم التفتيش ) تبحث عن كل مسلم لتحاكمه على عدم تنصره ، وأصدرت المحاكم تعليماتها للكاردينال سيسزوس لتنصير المسلمين في إسبانيا بالقوة ، فأحرقت المصاحف وكتب التفسير والحديث والفقه والعقيدة , وكانت محاكم التفتيش تصدر أحكامًا بحرق المسلمين وهم أحياء في ساحات غرناطة أمام الناس ، وقد استمرت هذه الحملة الظالمة على المسلمين حتى العام 1577م ، وراح ضحيتها حسب بعض المؤرخين الغربيين أكثر من نصف مليون مسلم ، حتى تم تعميد جميع الأهالي بالقوة .
وعلى المنوال نفسه ، سارت حملات كاثوليكية في بقية المدن الإسبانية ، وقد عُرف المسلمون المتنصرون باسم (المسيحيون الجدد ) تمييزًا لهم عن المسيحيين القُدامى ، وعرفوا أيضاً باسم (الموريسكوس )، وعوملوا باحتقار من قبل المسيحيين القدامى ، وتوالت القرارات والقوانين بحقهم , فعلى سبيل المثال صدر في العام 1507م أمر بمنع استعمال اللغة العربية ، ويعاقب المخالف للمرة الأولى بالحبس ومصادرة امواله ، وفي المرة الثانية بالإعدام ، وفي سنة 1510م طُبِّقت عليهم ضرائب اسمها الفارضة ، ومنع ذبح الحيوانات على الطريقة الإسلامية .
تبين للمحاكم أن كل أعمال الكثلكة لم تؤت ثمارها ، فقد تكثلك المسلمون ظاهرًا ، ولكنهم فعليًّا يمارسون الشعائر الإسلامية فيما بينهم سرًّا ، ويتزوجون على الطريقة الإسلامية ، ويرفضون شرب الخمر وأكل لحم الخنزير، ويتلون القرآن في مجالسهم الخاصة ويقومون بنسخه وتداوله فيما بينهم ، بل إنهم في منطقة بلنسية أدخلوا عددًا من الكاثوليك الإسبان في الإسلام , وعلموهم اللغة العربية والشعائر الإسلامية .
جاءت تقارير محاكم التفتيش صاعقة على رأس الكاردينال والملك الإسباني والبابا ، في أحد التقارير التي رفعها أسقف غرناطة ورد أن الموريسكوس لم يتراجعوا خطوة واحدة عن الإسلام ، وأنه ان لم يتم إيجاد طرق فاعلة لوقفهم فإنهم سيدخلون مسيحيي غرناطة وبلنسية ومدن أخرى في الإسلام بشكل جماعي . وبناء على ذلك تقرر إخضاع جميع الموريسكوس في إسبانيا إلى محاكم التفتيش من دون استثناء ، وكذلك جميع المسيحيين الذين يُشك بأنهم قد دخلوا الإسلام , أو تأثروا به بشكل يخالف معتقدات الكنيسة الكاثوليكية ، ولتبدأ أكثر الفصول وحشية ودموية في التاريخ الكنسي الغربي ، إذ بدأت هذه المحاكم تبحث بشكل مهووس عن كل مسلم لتحاكمه . ومارست أساليب في التعذيب لم يعرفها أو يمارسها أكثر الطغاة وحشية عبر التاريخ ، اذ وضعت عقوبات صارمة جدًّا بحق كل من يثبت أنه يرفض شرب الخمر أو تناول لحم الخنزير ، وكل مخالفة لهذه الممنوعات والأوامر تعد خروجًا على الكاثوليكية , ويحال صاحبها إلى محاكم التفتيش حيث يصار به الى الزنزانة في سجن سري ، مظلم، ترتع فيه الأفاعي والجرذان والحشرات، وتنتشر فيه الأوبئة، وفي هذا المكان على المتهم أن يبقى أشهرًا طويلة دون أن يرى ضوء الشمس أو أي ضوء آخر . ويشتمل التعذيب على كل ما يخطر على البال من أساليب , وما لا يخطر منها ، وتبدأ بمنع الطعام والشراب عن المتهم حتى يصبح نحيلاً غير قادر على الحركة ، ثم تأتي عمليات الجلد ونزع الأظفار، والكي بالحديد المحمي ونزع الشعر، ومواجهة الحيوانات الضارية ، والإخصاء ، ووضع الملح على الجروح ، والتعليق من الأصابع . ولا يستثنى من هذا التعذيب شيخ أو امرأة أو طفل .
لكن كل هذه المحاكمات والأساليب لم تنجح ايضا في إجبار المسلمين على ترك دينهم كما تريد الكنيسة التي أدركت مدى عمق الإيمان بالعقيدة الإسلامية في نفوسهم ، فقررت إخراجهم من إسبانيا كلها ، فأصدر مجلس الدولة بالإجماع في 30/1/1608م قراراً بطرد جميع الموريسكيين من إسبانيا الى شمال افريقيا , وقد بلغ عدد من طُرِد من إسبانيا في الحقبة بين سنتي 1609م – 1614م نحو 327.000 شخص ، مات منهم 65.000 غرقوا بالبحر، أو قتلوا في الطرقات ، أو ضحية المرض ، او الجوع .
استمرت محاكم التفتيش بعد ذلك , واتغوّلت على اهلها فذاق المسيحيون الذين لم يعتنقوا الكاثوليكية ويلاتها ايضا , فنصبت لهم المشانق , وأعدمت الكثيرين منهم حرقا ، حيث يقدر عدد الضحايا المسيحيين ممن جرت عملية إعدامهم من قبل محاكم التفتيش (300.000)، أُحرق منهم (32.000) أحياء، وقد كان من بينهم العالم الطبيعي الشهير جاليليو الذي نفذ به القتل لاعتقاده بدوران الأرض حول الشمس .
وبعد ــ يا رعاكم الله ــ فاليهود يضعون الغرب بشكل خاص , والعالم بشكل عام أمام عقدة ذنب حرق النازية لآلاف اليهود , فيما عرف بالهليكوست , التي كانت أحدى تبريراتها تاييد احتلال اليهود لفلسطين ، ومازال الابتزاز قائما . بينما لا زال العالم يجهل الكثير عن محاكم التفتيش التي ذهب ضحيتها ملايين المسلمين . وفي الوقت الذي تفتح فيه دول الغرب أرشيفها ، لينهل منها اليهود ويؤلفوا عن تلك المحارق ، مازال الفاتيكان والكنائس ترفض فتح أرشيفها وكشفه أمام المسلمين وغير المسلمين , كي لا تظهر وثائق جديدة عن فظائع محاكم التفتيش سيئة السمعة . طبتم وطابت اوقاتكم .

مقالات ذات صلة

إغلاق