مقالات

نقطة ماء / كتب مارسيل خليفة

أن أشهد للطفل الذي راقبتُ أيّامه وأنامله الطريّة منذ بدأت تُنطق
الصوت قبل الكلام ، فتلك شهادة مجروحة ، لأني قد أكون بحكم الأبوّة والتي فيها الكثير من الصداقة ، .منحازاً ليد تتهيّب أمام آلة عبقريّة ، ونوتة ساحرة وغامضة كالمستحيل .
كم تراني في حيرة ، لأبدي رأياً في المؤلف – العازف . إذ أنني اعتدت على صخبه وجنونه وشفافيته مذ كان يحبو على مدرج البيانو .
لا بأس بعد هذه الأمسيّة الجبيليّة في معمل الحرير بالفيدار قرب الطريق الساحليّة أن أروي وأسمح لنفسي أن أقول ما أقول متمردا على الأبوّة .


وكم رافقني معمل الحرير هذا المُلقى في النسيان بصمته وانا اروح وأجيء من عمشيت لبيروت ومن بيروت لعمشيت . يعبر الماضي الجميل والحاضر المتمسّك بأمل مستحيل . من أنبياء كُثُر لا ينصتون للموسيقى ولا يعرفون خيط الحرير الخارج من فوهة شرنقة .
رامي خليفة فتح باب البيانو وأدخلنا إلى قاعاته السريّة حيث يتربّع تراث هائل من الجمالية الفائقة والتكنيك القوي ، فتخال لمسة ذلك الصبي التي كانت تطال الروح فتعجز عندها العين عن رؤية تلك الأنامل المحلقّة وتلك الانحناءات الرهيبة ، فتكتفي بسماع تلك المجموعة الهائلة من النوتات المتماديّة في الصعود والهبوط متحولة بين يديه الناحلتين أصواتا ذات كيان .
وقد أبدع رامي بنقل ” المحيط ” إلى القاعة ، بتدفق فيّاض يبهر الأنفاس . أمواج صادحة وبهيّة ، تجثو على عتبات النوتات مبللّة بالرذاذ الفاتن . تدوس يدين مبتلتين بماء البحر ، ترسي توافقاتها في القرار السحيق ، تجمع صدف المستحيل ومرجانه في سلال الانغام .
هذا التدفّق الهائل وتلك الحيويّة الماهرة يسبران أغوار البيانو حتّى الأعماق ، يطاوعانه ويطوعانه .


أسلوب تأليف أخّاذ وعزف جميل في مناطق صوتيّة مختلفة ، واحدة تلو الأخرى . قفزة ” أوكتاف ” من قرار الصوت إلى جوابه ثمّ ينزلق في هدوء خافت منساباً في تتابع سلس وبسيط .
ويصعب على المشاهد – السامع تصوّر المراحل الكثيرة التي مرّت
بها كل تلك المؤلفّات حتى تشكلت على هذه الصورة .
الشاطىء يعبر به رامي خليفة من خلال صوت البيانو ، في أسلوب
شفّاف وأنيق مستخرجاً من بين أصابعه عرضاً مثيراً وساطعاً بكل قوته ونوره وبهائه ونشوته .
لم يتعب من السَفَر رأينا أصابعه العشر ترفرف كالطير المحلقّة في سماء النغم .
في سمفونية بيروت تلك التحفة التي شرقطنا بلهيبها حتى القفلة المفاجئة . تبدأ كالصلاة مبتهلة في جودة الميلوديّات وصولاً إلى ذروة التحليق مع البيانو . بركان متفجّر ، نتبعه بخفّة ومرونة ويتفوّق تأليفه الموسيقي ويسطع بين أصابعه . عذوبة غامضة ، تتغلغل في الأعماق وتدخل في مسام الروح .
بعد انتهاء الامسيّة ، فاضت القاعة بالتصفيق ألملم طيشه في الكواليس وكأنّه بقي والبيانو على المسرح .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق