الرئيسية

قراءة في ديوان “نثريات بين القلب والشفتين” للشّاعرة امال ابو فارس

بقلم دكتور رضوان منصور

لا أبالغ القول في أنّ المربّية الشّاعرة آمال قد وضعت بين أيدينا باقة ورود شعريّة ناصعة البياض فوّاحة العطر مميّزة. اختارت لإصدارها عنوان “نثريات” في شطره الأوّل رغم ثراء وغزارة قصائدها السّلسة الكامخة به والّتي تتناغم مع الفكر والإحساس بإيقاع منتظم حرّ التعبير، موحّد القوافي إلى حدّ ما، مرن العبارات، الفاظه واضحة ومعانيه عميقة الأبعاد. نصّها انسيابيّ متدفّق الأفكار، ثاقب النّظرة رمزيّ السّرد التّصويريّ، حرّ الموسيقى بين وزنٍ وقافية، إلى حرّيّة فكريّة تعبيريّة. وعلى ما يبدو لي أنّ تسمية النّثريات باتت من باب تواضع الشّاعرة ومن باب تسليط الضّوء على التنويع في أساليب الشّعر الحديث المكنوز بإصدارها.

أمّا بشأن الشّطر الثّاني من تسمية الكتاب، بين القلب والشّفتين وبعد أن قرأت إصدارها بعمق، تبيّن لي أنّ الشّاعرة تجمع بين بعدين، بعد ظاهريّ مرئيّ كالشّفاه، وبُعد باطنيّ مستور في خوالج القلوب. هذان البعدان يتجسّدان في نثريّات الكاتبة الشّعريّة، كأرجوحة جامعة بين البعدين دونما أصوات الاحتكاك بين الرّابط ومربط الأرجوحة بهيكلها. فالقصائد تصف ظواهر اجتماعية قائمة ناقدة إياها إلّا أنها سلسة، نقدها في طيّاته أحياناً ظاهرً جلي وأحياناً مستور خفيّ.
في مداخلتي هذه اخترت أن أسلّط الضّوء على ظواهر اجتماعيّة سلوكيّة، وتصرّفات بأبعادها الاجتماعيّة، القيميّة والأخلاقيّة كما ارتأيتها في نصوص الكاتبة والشّاعرة آمال. فقد استهلّت كتابها بقصيدة “أنا من هنا”، وهو وصف لقيمة الشّعور بالانتماء المتأصلة في أحاسيسها، مُعبّرةً عن جماليّات المكان والمناخ والإنسان السّائدة والمتجذرّة بها هي ذاتها. يفوح من سردها عطر الطّبيعة، خلّابة فحواها، أنغام طيورها وتناغم التّواصل بين قاطني سفوح الجبل ومرتفعات جغرافيته، تناغم يسمو صداه إلى بُعد الفضاء. ثمّ تغوص في ثنايا الإيمان والمعتقد في قصيدتها يا موطني، رافعةً رايةَ الرُسل والأنبياء الّتي توافقت بحضورها إلى موطنها كمكان جامع للأديان والمعتقدات جميعها. مناشدةً تخطّي ما يزرعه السّاسة من تفرقة بهدف الطّغيان. وتسافر بصورها الشّعريّة إلى مدينة حلب، تجول فيها، تواسيها في ألمها وما يبكيها. ثمّّ ترسم بقلمها الغزير المعطاء جسور اسطنبول الجامعة بين الأمم والشّعوب بين شرق وغرب ورسمهُا هذا ينسج خيوطاً ورموز للألفة والمحبة بين الشعوب. ثم تبكي نفسُها جراح بيروت وتستشعر بآلامها رافعة صلاتها للثم جراحها بحسّ إنسانيّ صادق عميق. والاستشعار بآلام الآخرين يراود الشّاعرة في قصيدة “ستائر السماء” بسدولها وفي مسالك أوجاعهم فيرافقها الكرى وتشدّ أنظارها منحوتة الألم شموليّة منقوشة على وجه القمر.
وتتكرّر في قصائدها أزهار تويج منبثقة من جذور إيمانها العميق بالباري والولاء والتّسليم لأحكامه. ففي قصيدة “مفارقة” تسلّط الضّوء على قيمة المحبّة في المجتمع مقارنة بين محبّتها لباريها وبين محبّتها لأمّها. وفي قصيدة “أخبروا أُمي” تطلب من المارّين إلى عالم الغياب أن يخبروا أمّها مناجاة حنين وألم فراق وتوق إلى ذكريات قد زيّنت أروقة الحيّ وجدرانه، ثمّ تتوسّد أحلام الحنين، تسرد به نهج أسلوب وحياة قد ولّى وعبر. وتستمرّ المفارقة والانفصام بين الأنا وأجزائه في شتات وهو عنوان قصيدتها، حيث قسط من أناها هنا وقسط من أناها هناك. ثمّ بلمسات وفاء تتعاطف مع نساء في قصيدة “زوجة دون كيشوت”، وظّفت الشّاعرة سردًا سلسًا لجُلّ اهتمامات الزّوج بسراب فروسيّة، تأخذ به إلى أبعاد وابتعاد عن الزّوجة، إلى أن يصحو من غفوته، يعيش ندم الاكتئاب ويفهم ما خسر من خلال محاربته لطواحين هواء، ويعود عودة كلل وضعف إياب. ويعود التّأرجح في وصف فارس الشّاعرة بين الواقع والهذيان، بين العنفوان والتّحنان، بين القسوة والرّقة، بين أناه وقناعاته. ثمّ تعود إلى نقد لاذعٍ سلس العبارات واصفة تفكيرًا ذكوريًّا يشكّل اعترافَ رجل لنهج تفكيريّ سلوكيّ إيمانيّ بتعدد النّساء للرّجل، والاكتساء التّبريريّ له بغطاء معتقديّ.
ولا تبخل الشّاعرة على القارئ بتقديم توصية من تجربتها الحياتيّة، ففي قصيدة “إرادة” تنادي بوضع الأهداف والسّير قُدمًا لتحقيقها، والتّغاضي عن ضوضاء بيئيّة ناقدةً الثّرثرة والحسد، رافعةً رايةَ السّعي والعزم. وفي قصيدة “يا عابداً للمال”، تسمو بأبعاد اجتماعيّة أخلاقيّة موضحة بأنّ المال والمادّة ككلّ ما هي إلّا ظواهر فانية لا قيمة لها، وتنادي بالعطاء من وفرتها من دون طلب وسؤال. وتسترسل من خلال فراشتها بجميل الصّور الكلاميّة والعبر وبنظرة تفاؤليّة، تنادي إلى عيش هادف مقرون بجوهر حتّى وإن كانت الحياة بمسار عاصف مُحيِّر. وبقصيدة “من قال”، تشير إلى أهمّيّة الإيمان بالذّات، دون السّير في مسار القطيع، وإن كانت حاجة إلى تخطّي قفار في مسار السّفر، ففي الإيمان بالقدرة والذّات يقوم حصن ذاتي ذريع منيع. وتعود بقصيدة “لا تجرِ” كي توصي الشّاعرة بعدم السّير بالتبعيّة خلف الآخرين، بل بكيان ذاتيّ وخصالٍ هي أنت. والسّموّ بالذّات يعود إلى ناظرينا من خلال قصيدة “كن كما أنت”، كي لا تسقط إلى زيف لا سوق له. هنا نرى الجانب المهنيّ التّربويّ لدى الشّاعرة، وتأثيره عليها حيث أن صقل ذات الطّالب وشخصيّته رافقتها في سنوات خبرتها التّربويّة.
أمّا قصيدة “مشاكسة” فتحمل بين طيّاتها روحًا ثوريّةً لا تقبل السّكينة والقنوع، مناديةً بكسر المرايا الّتي رسمت للمرأة صورةً تقوقُعها بها وتحثّ بها على التّحليق إلى الفضاء كفراشة أو نحلة أو كبلبل شادٍ. وتتأرجح بقصيدة “وعد” الى وصف نشوة الوعد بجماليّات العبر، بسلاسة الألفاظ وبطيِّب الحسّ إلى حدّ التّحليق في ذروة النّشوة الّتي من بعدها هروب واختفاء. هنا تتطرّق الشّاعرة إلى حالات اجتماعية بينه وبينها، بها تروي للقارئ الطّيبةَ الحقّة إلى حدّ السّذاجة، استغلالها ومن بعدها الهروب. في سردها هذا تزيد من الوعي لإمكانيّات حدوث هذه الحالات وواجب الحذر منها.
وترفع الشّاعرة راية المرأة معزّزة دورها ومكانتها في المجتمع، رافضة أن تكون من صُنع الزّجاج؛ إنما من تبر وعاج، واثقة بنفسها، تصوب ناظريها إلى بُعد السّماء، تربّي أجيالًا بصدر رحب على هيئة مسكن شافٍ ووطن حاوٍ، ثمّ تعود وتربط كلّ هذا بهويتها التّوحيديّة الّتي تعتزّ بها وتفتخر بإيمانها والمعتقد. بالمقابل تشاكي الشّاعرة في قصيدة “لست كباقي النساء” الأنا النّسائيّ الظّاهر، وتقارنه مع جماليّات الأنا النّسائيّ في جوهرها. تنتقد أشكال التّجميل المزيّفة من شفاه مدفوعة إلى الأمام وخصال شعر ملوّنة مزروعة، وطلاء هنا وآخر هناك مشدّدة بأنّ الجوهر هو عاجيّ مهما اكتساه طلاء وطين.
بين الخيال والحقيقة، دخلت الشاعرة وليس من باب الصّدفة إلى قصص أسطوريّة حين بنى “بچماليون” منحوتة “چالاتيا” وغرق في حبّها وتوسّل لتحويلها إلى حقيقة كي يحيا معها بجمالها الخارق. هنا تطرّقت الشّاعرة إلى من يخوض تجربة وهميّة لا حقيقة بها، غير قابلة لأن تكون واقعًا؛ إنّما هي خوالج تسلّط الضّوء نحو محاولات الامتلاك والتّملّك وإلى خوض النّرجسيّة وحُبّ الذّات، وهذا تحذير إضافيّ من الإيمان بوهم دون التّمسّك بالحقيقة.
قصيدة “حذار” هي الأخرى تتأرجح بصور كلاميّة في مسار جماليّ لقيم اجتماعيّة بين الثّواب والعقاب، فيها المحبّة والتّناقضات، وفيها الغدر والنّقمة والخيانة كما هو الحال في الحياة، وقد صورّتها الشّاعرة بشفافيّة للقارئين. وتصف لنا الشّاعرة الحياة في قصيدة “قُبيل ولادتي” بأنها ولادات متجدّدة، فيها انبعاثات وتتحلّى بفيض حيوات متجدّدة، وما هذه النّظرة سوى تأمل معنويّ تفاؤليّ للحياة الإنسانية، ففي كل ولادة فرصة للرّقيّ والارتقاء. النّظرة التّفاؤليّة هذه تعاودنا في قصيدة “لي كل ما في الكون”، متخطّيةً عمق المحبّة وأبعاده بخوالج تسمو إلى قمم النّشوة، تصوّرها الشّاعرة بصور شاعريّة تأنيسيّة الوصف، تتناغم مع الحسّ والإحساس.
وتأتي الشّاعرة بقصيدة “قصة حبنا” لتُجسد أمامنا تراثا وتاريخا وإيمانا متجّذرا في نفسها بدءًا من الخلق، ثمّ تعداد الحيوات مرورًا بالغفوة، ثمّ الصّحوة في مسار عالم الارتقاء السّلوكيّ، تأرجحًا بين نور وقَدر، وبين تخيير وتسيير. تأرجح بين الظّاهر والباطن، بين سلوك اجتماعيّ واعٍ، وبين سلوك يحتاج إلى التّغيير والارتقاء. طوبا لك شاعرتنا الموقّرة ولإصدارك الرّاقي الحكيم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق