مقالات

كتب أ. د. لطفي منصور سَألَتْني الْأَدِيبَةُ النّاقِدَةُ نافِلَةُ مَرزوق العامر

سَألَتْني الْأَدِيبَةُ النّاقِدَةُ نافِلَةُ مَرزوق العامر Stella ضِمْنَ بَرْنامَجِ “حِوارٌ أَدَبِيٌّ”: كَيْفَ تَرَى أُسْتاذِي مُسْتَقْبَلَ الْعَرَبِيَّةِ، في ظِلِّ الرُّكُودِ الْأَدَبيِّ فِي الدّاخِلِ خاصَّةً، وَالْعالَمِ الْعَرَبِيِّ عامَّةً؟
سُؤالٌ رائِعٌ وَمُهِمٌّ يَصْدُرُ عَنْ أَدِيبَةٍ واعِيَةٍ لِلْحَرَكَةِ الْأَدَبِيَّةِ.
لَيْسَتِ الْإجابَةُ فِي السُّؤال، لَكِنِّي أَشْتَمُّ مِنْ الْحُرُوفِ أنَّ أَدِيبَتَنا تُساوِرُها خَشْيَةٌ.
أَلَا سَقَى اللهُ عُقُودًا مَضَتْ ظَهَرَ فيها أَساطينُ الْأَدَبِ، وَفُحِولُ الشُّعَراءِ الَّذينَ أَثْرَوُا الْمَكْتَبَةَ الْعَرَبِيَّةَ بِسِحْرِ ما أَنْتَجُوا. هَؤُلاءِ الرُّوّادُ الْعَمالِقَةُ نَفَضُوا عَنْ أَجْفانِهِمْ سُباتَ عَصْرِ الِانْحِطاطِ الَّذي جاءَ بِهِ الْعُثْمانِيُّون، وَانْتَفَضُوا لِيُقِيمُوا مَدارِسَ أَدَبِيَّةً، كمدرسةِ مَحْمود سامي البارودي وحافظٍ إبْراهيم وَأَحْمد شَوْقي أَساتِذَةُ الِاكْلاسيكِيَّةِ الْجَدِيدَةِ، الَّذِينَ أَعادُوا الشِّعْرَ إلى عُصورِ الْبُحْتُرِي وَأَبي تَمّام وَابنِ الرُّومي.
ثُمَّ جاءَتْ بَعْدَهُمُ مَدْرَسَةُ الدِّيوانِ ، وَعَمالِقَتُها الْعَقّادُ وَالْمازِني وَعَبْدُ الرَّحْمَن شُكُرِي، الَّذينَ انْفَتَحُوا عَلى الْغَرَبِ، وَبَدَأَ التَّلاقُحُ الْأَدَبِيُّ.
ثُمَّ ظَهَرَتِ الْمَدْرَسَةُ الرُّومانْسِيَّةُ عَلى يَدِ أَحْمَد زكي أََبُو شادِي، وَبَدَأَتْ مَجَلَّةُ أَبولو يَتَضَوَّعُ أرِيجُها مَعَ أَطْلالِ إبراهيم ناجي، وَلَيالي الْقاهِرَةِ وَغَيْرِهِ مِنْ شُعَراءِ الْمَدْرَسَةِ.
أَقُولُ جازِمًا إنَّ النِّصْفَ الْأَوَّلَ مِنَ الْقَرْنِ الْماضِي شَهِدَ نَهْضَةً أَدَبِيَّةً شَمَلَتْ كَثيرًا مِنَ الْبِلادِ الْعَرَبِيَّةِ كَالعِراقِ مَعَ الزَّهاوي والرَّصافي وَبولند الْحَيدري وَالْجَواهِرِي وَغَيْرِهِمْ كَثِيرون. ثُمَّ حَصَلَ تَطَوُّرٌ فِي الشِّعْرِ، فَظَهَرَ شِعْرُ التِّفْعيلةِ، وَظَهَرَ شُعَراءُ جُدُدٌ مِثْلَ نازكِ الملائِكَةِ والسَّيّابِ وَالْبَيَاتي وانْطَبَعَ شِعْرُهُمْ بِالرَّمْزِيَّةِ وَالْحَيَوِيَّةِ ،ضِدُّ طُغْيانِ الْحُكّامِ وَالمُسْتَعْمِرينَ. وَلا نَنْسَى دَوْرَ سورِيَّةَ وَلُبْنانَ وَما قَدَّمَ شُعَراؤُها مِنْ زادٍ أَدَبِيِّ عالٍ خَاصَّةً شُعَراءَ الْمَهْجَرِ كَجُبْرانَ ونُعَيْمَةَ وَنَسيب عُرَيْضَةَ.
وَمِنَ الْجَدِيرِ بِالذِّكْرِ أَنَّ هذِهِ النَّهْضَةَ الشِّعْرِيَّةَ واكَبَتْها نَهْضَةٌ في جَمِيعِ فُصُولِ الْأَدَبِ الْأُخْرَى كَالرِّوايَةِ وَالْمَسْرَحِيَّةِ وَالْقِصَّةِ وَالأُقْصُوصَةِ وَبَلَغَتْ إلى دَرَجَةِ الْكَمالًِ .
هَذِهِ النَّهْضَةُ في الْعُقُودِ السِّتَّةِ الْأَخِيرَةِ، مِنَ الْقَرْنِ الْماضي أَصابَتْها نَكْسَةٌ مُذْهِلَةٌ أرْجَعَتِ الْأَدَبَ الْعَرَبِيِّ إلى قُرُونٍ مَضَتْ، وَذَلِكَ نَتيجَةَ عَوامِلَ ثَلاثَةٍ هِيَ:
الْحَداثَةُ وَقَصيدَةُ النَّثْرِ، وَالفيس بُوكْ وَما يُنْشَرُ عَلَيْهِ.
وَجَّهَتِ الْحَداثَةُ ضَرْبَتَيْنِ مُدَمِّرَتَيْنِ. الْأُولَى لِلشِّعرِ الْأَصيلِ ، أَدْخَلَتْ غَيْرَ الشُّعَراء فِي حَلْبَةِ الْفُحُولِ . ونادَتْ بِالشِّعْرِ الْحُرِّ، وَحَطَّمَتْ قَواعِدَ الشِّعْرِ وَقُيُودَهُ، أَوْ ما يُسَمَّى عَرُوضَ الْخَلِيلِ بْنِ أَحْدَ الْفَراهِيدِي.
وَفَجْأَةً ظَهَرَ مِئاتُ الْآلافِ مِنَ الشُّعَراءِ الْجْدُدِ وَاحْتَلُّوا السَّاحاتِ الْأَدَبِيَّةَ، وَصَفَّقَ لَهُمُ الْجُمْهُورُ الْعَرَبِيُّ وَكَبَّرَ.
لَيْسَ مَعْنَى هذا لَمْ يَبْقَ لَنا شَعَراءُ فِي الْوَطَنِ الْعَرِبيِّ. نَعَمْ هُناكَ شُعَراءُ فِي كُلِّ قُطْرٍ، لا يَتَعَدَّى عَدَدُهُمْ أَصابِعَ الْيَدِ الْواحِدَةِ، دُونَ أَنْ أَذْكُرَ أَسْماءً.
الضَّرْبَةُ الثّانِيَةُ مَسَّتِ اللُّغَةَ الْعَرَبِيَّةَ، فَقَدْ هُجِرَ النَّحْوُ، وَظَهَرَتِ الرّكاكَةُ في الْأَسالِيبِ الْكِتابِيَّةِ، وَبَدَأَتِ الْعامِيَّةُ تِزْحَفُ إلى حَرَمِ الْفُصْحَى الّتي تُعاني مِنْ إهْمالِ الْحُكّامِ الْعَرَبِ وَفَضَّلُوا عَلَيْها الْأجْنَبٍيَّةَ فِي بَعْضِ الْبُلْدانِ .
قَصِيدَةُ النَّثْرِ: هِيَ الْمِسْمارُ الْأَوَّلُ فِي نَعْشِ الشِّعْرِ الْأَصِيل. لا أُسَمِيها قَصيدَةً إلّا مُجامَلَةً. لا تَلُوميني أدِيبَتِي. اَقَدِ انْقَطَعْتُ عَنِ الْمِجامَلَةِ مُنْذُ زَمَنٍ لَيْسَ بِالْقَصِيرِ، إذْ كَيْفَ يَكُونُ النَّثْرُ شِعْرًا وَهُوَ غَيْرُ مَوْزُونِ وَلا مُقَفًّى، وَيَخْلو مِنَ الْموسيقَى ولا يُغَنَّى بِهِ. خَيْرُ تَسْمِيَةٍ لهذا الْجانِير النَّثْرُ الْفَنِّي.
وَهذا لا يُقَلِّلُ مِنْ فيمَتَهِ بَلْ يَرْفَعُها لِأَنَّهُ أَدَبٌ راقٍ ، يَفُوقُ الشِّعْرَ أَحْيانًا.
الْفيسبوك: هذا الِاخْتِراعُ أسَأْنا اسْتِعْمالَهُ. لَقَدْ أَصْبَحَ كُلُّ مَنْ يَمْتَلِكُونَهُ كُتّابًا وَبِجُرْأَةٍ شَدِيدَةٍ، لا تَسْتَطيعينَ أَدِيبَتَنا الْاِعْتِراضَ عَلَيْهِم لِأَنَّهُمْ لا يَسْمَعُونَ، وَقَدْ يُخاصِمُونَكِ وَهُمُ الْأَكْثَرِيَّةُ وَنَحْنُ الْمْحافِظينَ عَلى اللُّغَةِ أَقَلِّيَّةٌ.
لُغَةٌ مُحَطَّمَةٌ، وَنَحْوٌ غائِبٌ، وَإمْلاءٌ في الْحَضيضِ، ومَعانٍ واهِيَةٌ تَنْقُصُها الْإفادَةُ.
لَقَدْ تَدَهْوَرَتِ اللُّغَةُ فِي الْعِقْدَيْنِ الْأَخِيرَينِ أَكْثَرَ مِنْ نَهْرِ الْأُرْدُنِّ تَدَهْوُرًا، فَلُغَتُنا غَيْرُ مَخْدومَةٍ أَديبَتَنا الْحَرِيصَةَ عَلى اللُّغَةِ. قَضِيَّةُ التَّعْريبِ ماتَتْ، وَمَجامِعُنا الْعَرَبِيَّةُ مُفْلِسَةٌ لا حَياةَ فيها، مَعاجِمُنا قَديمَةٌ تَخْدِمُ الْأدَبَ الْقَديمَ لا غَيْرَ. اللُّغاتُ تَتَطَوَّرُ، لُغَتُنا واقِفَةٌ في الْوَحْلِ، فقيرَةٌ في الْمُصْطَلَحاتِ الْعِلٍمِيَّةِ، أَسالِيبُ تَدْرِيسِها أُسْتاذَتَنا عَقيمَةٌ، لَوْ تَعْلَمينَ أَنّ آخِرَ كِتابٍ أُلِّفَ فِي أساليبِ تَدْرِيسِ الْعَربِيَّةِ، وَحَوَى أَبْحاثًا عَنْها كَانَ سنةَ ١٩٧٦ صَدرَ عَنْ مُؤتَمَرِ الْخُرْطُومِ الَّذِي أُقيم
لِبِحْثِ مُشْكِلاتِ الْعَرَبِيَّةِ، وَكُلُّ ما ظَهَرَ بَعْدَهُ لَمْ يَزِدْ عَمّا جاءَ فِيهِ.
أَمّا عَنِ الْوَضْعِ عِنْدَنا فَهُوَ لا يَخْتَلِفُ كَثِيرًا عَنِ الْوَضْعِ الْعَرَبيِّ، وَهذا إنْجازٌ كَبِيرٌ لَنا، لِأَنَّنا بَدَأْنا مِنَ الصِّفْرِ ، بالرَّغْمِ مِنْ وُجُودِنا في دَوْلَةٍ غَيْرِ عَرَبِيَّةٍ. أَقولُها بِصَراحَةٍ هُناكَ انْتاجٌ أَدَبِيٌّ قَليلٌ لا يَقِلَ مُسْتَواهُ عَنِ الْعالَمِ الْعَرَبيِّ، وَهُنَاكَ ما يَعْلُو عَلَيْهِ لَكِنَّهُ قَليلٌ أَيْضًا.
هِذِهِ إجابَتِي مُخْتَصَرَةٌ عَلى سُؤالِكِ الْعَظيمِ أَديبَتَنا الْفَذَّةَ.
سُؤالي لَكِ لِلْحِوارِ الْقادِمِ:
كَيْفَ نَنْهَضُ بِلُغَتِنا، وَما هُوَ دَوْرُ الْمُطالَعَةِ والْقِراءَةِ فِي ذَلِكَ؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق