مقالات

ذكرى فتح مكة، على عتبة العشر الأواخر

مقالة ذات أبعاد رؤية * هذه المقالة يكتبها د. محمد طلال بدران - مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية - * مقالة خاصة حول: (ذكرى فتح مكة)

الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبع
في العشرين من رمضان في السنة الثامنة للهجرة، سطر التاريخ واحدة من أعظم لحظات الإسلام؛ لحظة فتح مكة، حيث تجلت معاني القوة المتسامحة، والقيادة الحكيمة، والانتصار الذي لا يطفئ جذوة الرحمة، واليوم، ونحن نقترب من العشر الأواخر من رمضان، نقف على أعتاب هذه الذكرى العظيمة، متأملين في دلالاتها السياسية والدعوية، ومقارنينها بواقع الأمة اليوم.

* فتح مكة: من الصراع إلى النصر
كان فتح مكة ذروة الصراع بين الحق والباطل، بعد سنوات من المواجهة بين المسلمين وقريش، ومن والاهم لكن المفاجئ أن الفتح لم يكن معركة دموية، بل كان نصراً سلمياً تحقق بحكمة النبي ﷺ وإدارته الحكيمة للأحداث، لم يكن الفتح مجرد سيطرة عسكرية، بل كان إيذانًا بعهد جديد من العدل والاستقرار،
حيثُ دخل النبي ﷺ مكة على رأس عشرة آلاف مقاتل، في موقف مهيب، لكنه لم يكن انتقامياً ولا مستعرضًا للقوة، كان يحمل روحًا دعوية تُكرّس معاني العفو والصفح، فعندما اجتمع أهل مكة مترقبين مصيرهم، خاطبهم النبي ﷺ بكلماته الخالدة: “اذهبوا فأنتم الطلقاء”، فلم يكن ذلك مجرد إعلان للعفو، بل كان استراتيجية لإعادة بناء المجتمع على أسس جديدة.
* دلالات سياسية معاصرة
من الناحية السياسية، قدم فتح مكة نموذجًا للقيادة التي توحّد القلوب قبل الأرض، وتحقق النصر دون إذكاء الصراعات الداخلية، كما في زماننا هذا حيث تعاني الأمة من التمزق والفُرقة، نجد أن السياسة النبوية في الفتح تطرح حلولًا لكثير من الأزمات، إذ لم يسعَ النبي ﷺ إلى إذلال خصومه، بل دمجهم في المشروع الإسلامي، فأسلمت قريش ودخل الناس في دين الله أفواجًا.
– كما أن فتح مكة يُبرِز أهمية التدرج في بناء القوة، إذ لم يأتِ الفتح فجأة، بل سبقه بناء مجتمعي ودولة قوية في المدينة، مما يعكس أهمية التخطيط الاستراتيجي وعدم الاستعجال في تحقيق الأهداف الكبرى، وهذا درس مهم للحركات الإصلاحية اليوم، فبناء الدولة والمجتمع المتماسك لا يكون بالعاطفة وحدها، بل يحتاج إلى رؤية بعيدة المدى وصبر على التحديات.
– ومن الدروس السياسية المهمة في الفتح، أن الإسلام ليس مشروع قتال بالدرجة الأولى، بل هو مشروع حضاري يسعى إلى استيعاب المخالفين وإيجاد مساحة للتعايش، دون التفريط في المبادئ، وهذا ما يتأكد اليوم، حيث يحتاج المسلمون إلى تبني نهج يوازن بين القوة والرحمة، وبين الحزم والتسامح، وفق ما تقتضيه المصلحة العامة للأمة.
* دروس دعوية على أبواب العشر الأواخر
أما من الناحية الدعوية، فإن فتح مكة يرسّخ مفهومًا مهمًا، وهو أن الدعوة لا تقوم فقط على الصدام، بل على الحكمة والصبر والعفو عند المقدرة، لم يكن النبي ﷺ يسعى إلى محو المخالفين بالقوة، بل كان يفتح لهم أبواب العودة، كما فعل مع أبي سفيان، الذي تحول من زعيم معادٍ للإسلام إلى داعم للدولة الإسلامية.
* على عتبة العشر الأواخر
في العشر الأواخر من رمضان، حيث تتجدد النفوس وتصفو القلوب، ينبغي للدعاة أن يستلهموا من النبي ﷺ كيف يكونون مصدر رحمة للناس، وكيف يقدمون الإسلام بصورته المشرِقة، كما فعل في مكة حين قال: “من دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن”، في دلالة على أن الدعوة الحقيقية لا تعتمد على فرض الأمر بالقوة، بل بفتح القلوب بالحكمة والموعظة الحسنة.
* بين فتح مكة وواقع الأمة
فتح مكة لم يكن مجرد حدث تاريخي، بل نموذج دائم للحركة الإسلامية في كيفية التعامل مع الأعداء، وإدارة النصر، واستثمار اللحظات الفارقة في تاريخ الأمة، واليوم، ونحن نقف على أعتاب العشر الأواخر، ولذلك يجب أن نسأل أنفسنا: هل نستطيع أن نستلهم روح الفتح في إصلاح واقعنا؟ هل يمكن أن نستخدم الرحمة مع القوة لبناء مجتمعاتنا بدلًا من تمزيقها وتفريقها؟
– إن ذكرى الفتح تأتي كل عام لتذكرنا بأن النصر ليس في الغلبة العسكرية فقط، بل في القدرة على إصلاح النفوس وتوحيد الأمة تحت راية العدل والإيمان، فإذا كانت العشر الأواخر محطة لتصفية القلوب مع الله، فإن فتح مكة محطة لتصفية القلوب مع الناس، والبداية الحقيقية لنشر العدل والرحمة في الأرض.
* تقبل الله الصلاة والصيام والقيام وسائر الطاعات وبلّغنا وإياكم ليلة القدر.
* مقالة رقم: (1906)
* 20. رمضان . 1446هـ
* الخميس. 20.03.2025م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق