مقالات

* ذكرى معركة بدر بين التاريخ المشرّف والواقع المؤسف

رؤيَة * مقالة خاصة بمناسبة ذكرى معركة بدرٍ الكبرى، يكتبها د. محمد طلال بدران، مدير دار الافتاء والبحوث الإسلامية (* 48 )

الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد

تمرّ علينا ذكرى معركة بدر الكبرى، تلك اللحظة الفارقة في تاريخ الأمة الإسلامية، حيث انتصر الإيمان على الكفر، والحق على الباطل، رغم قلة العدد والعُدّة، كانت بدر يومًا من أيام الله، كتب فيها نبيّنا الكريم وصحابته المجاهدون الصادقون تاريخًا مشرفًا بدمائهم وتضحياتهم، وحملوا راية الإسلام في وجه أعتى القوى التي أرادت وأد الدعوة في مهدها، ولكن، إذا ألقينا نظرة على واقع الأمة اليوم، فإن المقارنة بين ذلك النصر العظيم وما نعيشه حاليًا تثير الكثير من التساؤلات والآلام.
* بدر: المعركة التي صنعت الأمة
كانت معركة بدر أوّل اختبار حقيقي للمسلمين بعد الهجرة، حيث خرج النبي ﷺ في 17 رمضان من العام الثاني للهجرة لملاقاة قريش، التي جاءت بجيش يفوق المسلمين عددًا وعتادًا، ولكن الإيمان الصادق والتوكل على الله كانا سلاحًا لا يُقهر، فجاء الوعد الإلهي بالنصر، كما في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (آل عمران: 123).
كان ذلك النصر محطة مفصلية في بناء الدولة الإسلامية، إذ عزّز هيبة المسلمين ورسّخ مكانتهم، وجعل كلمة الله ودين الإسلام يعلو في الجزيرة العربية، وأعطى المؤمنين ثقة بأن النصر لا يُقاس بالموازين المادية وحدها، بل بقوة العقيدة والاعتماد على الله.
* بين ماضٍ مشرّف وواقع مؤلم
لكن إذا نظرنا إلى حال الأمة اليوم، نجد بونًا شاسعًا بين ذلك العهد المجيد وما نعيشه الآن، كانت بدر مثالًا للوحدة واليقين، أما اليوم فالتفرّق هو السمة الغالبة، والصراعات الداخلية أنهكت الأمة، وأصبحت القوى الكبرى تتحكم في مصير المسلمين، بينما كانوا هم من يوجهون العالم بمبادئهم وعدلهم.
لم يكن المسلمون في بدر أكثر قوة من أعدائهم، لكنهم امتلكوا إرادة الانتصار، بينما نجد اليوم أن الأمة تمتلك الموارد والإمكانات ولكنها تفتقد الروح الحقيقية التي كانت عند أصحاب بدر.
استلهام روح بدر في مواجهة التحديات
إنّ معركة بدر لم تكن مجرد حدثٍ تاريخي، بل كانت نموذجًا إيمانيًا متكاملًا في كيفية مواجهة التحديات، فقد واجه المسلمون عدوًا أقوى منهم، لكنهم لم يستسلموا لليأس، بل أدركوا أن النصر لا يُمنح لمن يمتلك القوة المادية فقط، بل لمن يمتلك الإرادة الصلبة والارتباط الوثيق بالله. واليوم، تواجه الأمة تحديات خطيرة، سياسية واقتصادية، لكنها تملك في تاريخها دروسًا حية، وفي قرآنها منهاجًا خالدًا، فمتى استوعب المسلمون هذه السُّنن وعادوا إلى روح الجهاد والعمل والبذل، تغيّرت الموازين كما حدث يوم بدر.
* النصر بين السنن الإلهية والعمل البشري
لقد سنّ الله في كونه قوانين لا تتبدل، فالنصر لا يأتي دون تضحية، ولا يتحقق دون إعدادٍ وعمل، وقد قال تعالى: ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ (محمد: 7)، وما بين بدر وواقعنا، تبقى الحقيقة ثابتة: من أراد العزة، فعليه أن يسير في طريقها، ومن طلب النصر، فعليه أن يسلك أسبابه، فلا يكفي أن نُحيي الذكرى بالكلمات، بل يجب أن تكون محطةً لتجديد العهد مع الله، ولإعادة ترتيب الأولويات على مستوى الأفراد والمجتمعات، حتى نكون جديرين بالنصر والتمكين من جديد.

* الطريق إلى نصر جديد
لا يمكن أن تبقى ذكرى بدر مجرد قصة تُروى، بل يجب أن تكون منهاجًا يُستعاد فيه الإيمان بالتمكين، واليقين بأن النصر لا يتحقق إلا بالإعداد الحقيقي، ماديًا وروحيًا. فمن دروس بدر:
1- الإيمان الصادق:
فقد كان الصحابة على يقين بأن الله سينصرهم، وهذا اليقين يجب أن يعود إلى الأمة.
2- الوحدة ونبذ الفرقة:
فالمسلمون كانوا صفًا واحدًا خلف قائدهم، واليوم لا يمكن تحقيق النصر إلا بجمع الصفوف.
3- الإعداد المستمر:
فلا نصر بدون أسباب مادية، بل يجب أن يكون هناك تخطيط وأخذ بالأسباب، كما قال تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾ (الأنفال: 60).
* خاتمة
تبقى بدر رمزًا خالدًا للانتصار حين يتوحد الإيمان مع العمل، وعبرةً للأمة بأن قوتها ليست في عددها بل في صدقها مع الله، وإن كانت الأمة اليوم تمر بواقع مؤلم، فإن الأمل لا يزال موجودًا، ما دام هناك من يستلهم دروس بدر ويؤمن بأن التغيير ممكن، إذا عادت الأمة إلى عقيدتها القوية وقيمها الأصيلة التي صنعت نصرها الأول، وليس ذلك ببعيد عن أمة محمدٍ صلوات ربي وسلامه عليه.. تقبل الله صيامكم وسائر طاعاتكم وبلّغنا وإياكم ليلة القدر.
* طاب يومكم، ورمضان كريم
* مقالة رقم: (1903)
* 17. رمضان . 1446هـ
* الأثنين. 17.03.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق