ثقافه وفكر حر

رائحة القهوة أحمد بشير العيلة / قصة قصيرة

لم يمتلك أي مشربٍ في التاريخ سحراً وشعبية كالقهوة؛ أو هكذا خُيّل لي من شدة إدماني لها، خاصة صباحاً، ولم أُتعِب نفسي في تحليل الأمر؛ أهو عادة أم سعادة، تركتُ نفسي تهيم وراءها عاشقاً مسحوراً، وصنعتُ لها عرشين من الوقت أضع فناجي عليهما، الأول صباحيٌّ بالطبع؛ شرط أن تكون عذراءَ بلا سكر ولا نكهة إلا البُن، لأستفرد بها وحدها قبل أن يبدأ تفكيري في مغادرتها إلى تفاصيلي اليومية، والثاني حلواً في العشيّ لأتخلص من مرارة وتعب النهار، وكم امتزجتْ تلك العادات الفارهة بتفاصيل كثيرة في (البلد)، وكم تداخلت سيرة القهوة وجلسائها مع سيرة المكان وحكاياه، حتى أن كل قصص بيت حانون الاجتماعية والسياسية لا تمر أمامي إلا بنكهة القهوة، وقد كان مكاني المفضل لشربها أمام دكان أبو جميل المطل على مركز البلد، صباحاً قبل ذهابي لعملي وعشية بعد قيلولتي.
كنت أعتقد أني أكثر من عشق القهوة في هذا البلد، حتى أني أصبحتُ ماهراً في معرفة تركيبتها من رائحتها، ووصل بي الأمر أن أعرف نسب المزج بين البن بأنواعه عند خلطه، من رائحته، لكن ترتيبي في عشقها تراجع بعد أن احتل أحدهم الترتيب الأول، فمنذ بضعة سنوات؛ صار الفجر منقوعاً برائحة القهوة، فهناك من سبقني واحتساها قبل أن تطلع الشمس.
فبعد صلاة الفجر، صرت أشم رائحة القهوة وأنا خارجٌ من مسجد الهداية، وهي خرجت من ركوتها لتطوف في شارع النعايمة ملائكةً سمراء تقبل ذا الجدار وذا الجدار، بل اعتقدتُ لفترة أنها هي الخيط الأسود الذي يسبق الخيط الأبيض من الفجر، بل اشتد بي التخيل حتى اعتقدتها فعلاً صوفياً لا بد منه لكائنٍ وصل إلى مقامٍ سَرَى به مع نسمة الفجر، ومع الأيام استنزفتُ كل مخيلتي التي سحبتها رائحة القهوة إلى مساحات التجلي، وكان لابد من أنسنة القصة، فقد اشتد بي الفضول لأعرف من صاحب فنجان الفجر.
كلفني الفضول جهداً في التفكير والتدقيق، فأثقلت من خطوي بعد خروجي من المسجد، ورفعت درجة حساسية الشم عندي لأتتبع تركيزات رائحة القهوة لأعرف من أي البيوت تخرج، وحسبت نفسي قد حددت دائرة وجودها، إلا أني لم أضبط المركز، فعملتُ مخبراً سريّاً في النهار، أتحايل على جلسائي بسيرة القهوة للبحث عن أي معلومة توصلني لصاحب أو صاحبة فنجان الفجر، ومع الكثير من التقصي وربط الأحداث والأسماء والأفكار حتى عرفتها بعد جهدٍ لا أحسد عليه، إنها السيدة الخمسينية بثينة نعيم… ياله من اكتشاف وصل إلى حد أن وصفته بفتحٍ من الله عليّ ليريحني من مشقة الفضول والتساؤل. ومن بعد اكتشافي هذا صار للفجر ملامح أعرف الآن مسمياتها، بل وصار للمكان هوية لم يدرك قيمتها غيري.
دخل قطاع غزة في دورة جديدة من الاستهداف، أصابت أولى القذائف شارع النعايمة، اعتقدتُ للوهلة الأولى أن القذيفة كانت تريد القضاء على رائحة القهوة، بل أن إعلان الحرب جاء انتقاماً من تلك الرائحة، ففي ذروة الصراع يجد المرء أن تفكيره قد صار طفولياً من شدة الرهبة، تساقطت القذائف فجراً على رائحة القهوة، فتساقط بشرٌ وبيوتٌ وعمائر وحكايات، وفر الناس من الموت، ولم أعرف هل استشهدتْ رائحة القهوة أم دفنت تحت الركام أم نزحت هي الأخرى؟
مرت أشهرٌ عديدة ونحن من نزوحٍ إلى نزوحٍ، صارت الحياة هينة ومهينة، كأن أجسادنا من زجاجٍ لم يحتفظ إلا بالنفس الأخير الذي لا أعرف متى سيخرج ولا أين من كثرة الكسور التي أصابتنا، وازداد الأسى والألم والبؤس، الذي حملناه وحده من الشمال للوسطى لرفح للوسطى مرة أخرى، كدتُ أُجن لكن من بقي من رهطي صبّروني، وفي تلك الليلة كان النزوح الرابع لنا خلال أشهر، وما إن وصلت بأعجوبة بعد تحايلٍ مرهق على القذائف، حتى وضعتُ تعبي وسادةً تحت رأسي في ساترٍ سموه لنا خيمة، ونمت.
استيقظتُ على آذان الفجر، فالناس اعتادوا مع كل تجمّعٍ جديد أن يخرج منهم مؤذناً وإماماً ووعاظاً وطباخون ومعلمون وآخرون لا تعلمونهم؛ الله يعلمهم، توضأتُ بأقل ما هو متاح لنا من ماء، وذهبت صوب مساحةٍ مصابة أسموها مسجداً، صلينا الفجر، وخرجت باتجاه مأواي…
وما هي إلا خطواتٍ قليلة، فإذ بي أهلل وأصيح:
– يا الله رائحة القهوة.. يا الله كيف جاءت إلى هنا؟!، يا لها من مفاجأة…
فكرتُ ودققتُ وركزتُ في تلك الرائحة، إنها هي رائحة قهوة السيدة بثينة، نعم هي ذاتها، لقد تطابقت بصماتها، التركيبة نفسها، التركيز نفسه، هي… هي…
كأننا عدنا إلى الحياة في بيت حانون، كأن أرواحنا رجعت لأجسادنا، كأن منازلنا نهضت من ركامها، كأن الحياة تدفقت من جديد في شرايين البلد.. يا إلهي؛ أتفعل رائحة القهوة بي كل هذا السيل من المشاعر؟!، كيف استطاعت أن تجعل من هذا المكان البائس الذي يكاد ينبس بالحياة، شيئاً من جنة، نعم نعم، أدرك الآن تماماً، بل صار يقيناً عندي أن رائحة تلك القهوة تهب علينا من الجنة، لذلك، وحفاظاً على مشاعرَ كم أحتاجها في هذا الكرب، لم أجرؤ أبداً أن أبحث عن السيدة بثينة نعيم في المخيم، خوفاً أن يكون مصدر هذه الرائحة بالفعل من الجنة، حيث تشربِ القهوةَ هناك على مهل.
أحمد بشير العيلة
غرة نوفمبر 2024
اللوحة المصاحبة: للفنانة الفلسطينية رغدة زيتون Raghda Zaiton 2020
@متابعين
@إشارة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق