مقالات

دمعة حارقة كالصديد …

الفنان مارسيل خليفة

٤ آب ورأيت تدفّق الحدث الدامي وكبرياء الألم في بيروت .
مطر من الزجاج يصبّ في أعماق الأبديّة . يصبّ في غور سحيق .
الزجاج المتناثر مثل الدمع يغطي العيون . ويا للقلق الذي لم يكف يوماً عن مباغتتنا بلا رحمة .
كلّنا على قلق ، نحتاج إلى خارق ومعجزة !
كيف انكسر الأب كما ينكسر السّرو العالي ؟ سحبوا منه طفلته ، وعلقوها على الهواء وصارت ” أليكسندر ” نجمتنا .
ويا ” عَليّ ” جئت من أجل كيس طحين فطحنتك الاهراءات .
وتلك الأم الثكلى ، المتشحّة بالسواد ، تنادي ابنها ” الحلو ” صاحب العيون العسليّة . من الذي أهال على جسده المرهف تراب التعب ؟ نهنهة البكاء لذلك المولود الخارج لتوّه من رحم أمه في المستشفى المنكوبة . يا أيها الطفل الجميل ، لا استطيع أن اتخيلّك من دون ام وأب ! سأنثر عليك ما في وسعي أن انثر من زهر . وتلك الصبية الآتية إلى مدينها بعد تخرجها ، حملها والدها الطبيب في أزقّة بيروت المدمرة مناشداً : انقذوا إبنتي . . “جّو ” الذي غاب في ضباب الانفجار بحث عنه “وليم ” ومازال . . كانوا جميعاً هناك : فوج الإطفاء ، العروس النائمة ، الناطور بثيابه المهلهلة . صيّاد السمك بقصبته المتهالكة . الرجل الذي يقف عارياً مصدوماً محموماً ، رافعاً ذراعيه في محاولة مستميتة لالتقاط المراكب السابحة في الفضاء . لا حدّ ، أبداً ، لطاقة الأسى والعجز عن الامساك بأطراف سحيقة . ثمّة كاب يعوي في ليل المدينة منتظراً عودة صاحبه الذي طيّره الانفجار الكبير وتبخّر .
سماء من دخان ، أجساد تتسلّق الفضاء الشاسع ، نتطلّع بأبصارنا وبصائرنا الكليّة لنرى الحد الفاصل بين ما هو واضح وما هو غامض .
بكاء عاصف
من يملأ فراغ الذين رحلوا والذين فقدوا ؟ من يملأ هذا الفرغ ؟! ما جدوى هذا العبث !؟ من ينتشلنا من هاوية السقوط ؟
من ينسانا تحت الركام على ضفاف المينا ؟ أين سترسو السفن ؟ أين سترسو أحلام المدينة ؟ أفي وسع القمح أن ينبت في ساحة الشهداء ويصعد إلى السماء ؟
كانت مدينتي تستهويني وكنت ازرعها وحيداً في المساءات البعيدة . طليقتان قدماي تهويان في الفضاء . كان ذلك عندما جئتها على صهوة حلمي المبلّل برذاذ الطفولة لأدرس في معهدها وعيناي تمسحان الناس والواجهات وسحرها الخرافيّ من شارع إلى شارع . ثمّ اتى الرصاص وأتت بعد حين الاغنيات العاشقات ينتحرن على شرفة وتر تنقره الأصابع في جنون ريشة النسر . وهكذا سكنتني المدية وروضّت صوتي على الوداعة . ما زال في وسع ذاكرتي البيروتيّة ان تدلني على تاريخ اول الأشياء واول الأسماء .
تنفتح المدينة من المرفأ وتصعد بلا تعب وبلا ملل إلى تعرجات الجبال المحيطة لتصل القرى ببعضها .
اصوات البواخر على رصيف الميناء تئن وإيقاعات اولى لقمر مكتمل ينبت على رأس الجبل وينزل مسرعاً ليسقط في بحر بيروت .
لم يبق حيّ سوى الموت !
يتراكم الزجاج في كل مكان وتغيب المدينة .. تنثرنا الدروب والشظايا وتجمعنا المفارق ونشقى في الشقاء مثل سفينة تهب نفسها للضباب .
تزحزحت الارض من مكانها وتابعت دورتها المملّة ومدارنا الخاص المحظور يدمّر . لا نرى النور ونراه . ينبغي ان نراه . ولا خيار لنا سوى بلوغ ذلّك البصيص في نهاية ذلك النفق المظلم .
دمعة أذرفها على مدينتي الموجوعة ، المجروحة .
دمعة حارقة كالصديد . .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق