شعر وشعراء

عين الإدراك .. رياض. الصالح

قلتِ لي يوماً يا عزيزتي بأن الغاضب قد يعود، لكن المدرك لن يعود أبداً ..
لقد ذهلتُ حينها كثيراً عندما استخدمتِ الإدراكَ والوعيَ في مضمارٍ قد لا يلائمُ نوعيّةَ المنافَسة، فما الإدراكُ إلا لمعَةٌ عقليّةٌ بزغَت في المدى المظلم الطويل، ولا أظنُّ المشاعِرَ التي أحيَت قلوباً من مواتِها تستَحِقُّ أن تُنعَتَ بالإعتامِ أو تُلَوّنَ بالسواد ..
أعلَمُ أنّ العقلَ باشتعالِهِ يُطفيءُ العاطِفَة .. فلا يعودُ ولا يُعيدُ ولن يُكَرّر .. فهوَ الرمادِيٌّ الباهِتُ الذي لا يَجلِبُ دِفئاً ولا يُلَوّنُ صورَة، ويٍحمِلُ عِبئاً لكنّهُ لا يتعاطَفُ ولا يجبُرُ الخاطِرَ ولا يُقَدّرُ المواقِفَ إلا حَسَبَ مقاييسِه المُحكَمَةِ كالأقفال ..

وما المُدرِكُ يا عزيزَتي إلا غاضِبٌ من نفسِهِ ولو أنكَرَ مشاعِرَ الغضب .. وحاقِدٌ على مرارَة الحقيقةِ ولو ادّعى تَقَبُّلها .. يُعطّلُ الحُبَّ والكراهية ليُحَدّدَ مسافَة الاغترابِ والبُعدِ عن الجميعِ سواسِيَة .. ويُعيدُ النظرَ في كلِّ المُسَلّمات .. لأنّهُ مُدرِكٌ أنّ نسبِيّةَ كلّ حقائقِ الحَياةِ هيَ طبيعَة الحياة .. ثمّ ينسى أو يَتَناسى أنَّ إدراكَهُ كذلك خاضِعٌ لتلك النسبيّة ..

لذا سترينَهُ يا عزيزَتي يُعَطّلُ الدموع .. لكنّهُ لن يقدِرَ على تعطيل الأحزان .. ويُعطّلَ الضحِك، لكنّهُ لن يستَطيعَ منعَ نفسِهِ من فَرحَة الوصول .. وبسمة النضوج .. أو حتى ابتسامَة التهكّمِ الساخرِةِ أو حتى الحانيَة .. على أو إلى بعضِ ذكرياتِ جهلِه التي سيَعجَزُ مُرغَماً عن نسيانها..

سيُعطّلُ هذا المُدرِكُ القابِعُ في لحظَته جميعَ الألوان الزاهيَةِ يا عزيزتي .. فعدَسَةُ الإدراك سوداءُ، لكنّهُ سيضيقُ بها حتماً عندما تُشرِقُ البصيرة .. وتتفتّحُ عينُ الحكمَةِ التي تُبصِرُ درجات الألوان جميعاً، وتتقنُ عزفَ لحنِ الحياة عندما تتركُ أنامِلَها المُتَمَرّسة تعزِفُ وِفقَ سمفونيّة الألوانِ المُتدَرّجة .. لتذهَبَ بالأبصارِ نحوَ فردوسِ السعادةِ الذي يُجَمّعُ ولا يُفَرّق .. ويُصلِحُ القلوبَ التي اهترأت بفِعلِ الإدراكِ القاسي الذي أفسَدَها وحَطّمَها ..

فالمُدرِكُ لن يعودَ يا عزيزتي .. لكنّ الحكيمَ يَعودُ ويعيدُ ويُفسِحُ المجال للعتابِ والبكاءِ وصراخِ المشاعِرِ التي أرهَقَها الكبتُ والحرمان والغموض .. لكنه يصطحبُ على جَنبَيهِ الحذرَ مع التفَهّمِ ..
والحكيمُ لا يخشى ما عجز المُدرِكُ عن مواجَهَتِه .. وخافَ من لوعتِه وأحزانه، ولن يوقفَ نَبضاً يَختَزِلُ علامَات الحياة القصيرَة أصلاً .. من أجلِ اضطرابٍ طاريء أو مغامرةٍ عارِضة ..ولن يُعَطِّلَ خفقاً قويّاً دافقاً يُرَمّمُ الجراحَ بقدرِ ما يستَطيع، ليستَعيدَ عافِيَة الأبدان والأرواح سواسيِة .. له ولِغَيرِه.. فما تمام الحِكمَةُ إلا بالرغبَة في الصلح والإصلاح .. ولعلّ لَجمَ الإدراكِ وترويضه هو عينُ الإدراك .. التي تبصِرُ البعيد القريب بنفس درجة الوضوح الذي تبصر به القريب البعيد كذلك ..

# بقلمي
# رياض الصالح

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً

إغلاق
إغلاق