ثقافه وفكر حر
قصة مثل / قصة عند جهينة الخبر اليقين
هذا المثل يضرب لمن يعرف أن الخبر الأكيد عنده وليس عند غيره ، وقصته تدور حول رجلين مجرمين وصعلوكين ، أحدهما يدعى حُصين بن عمرو ، والآخر من قبيلة جهينة يدعى الأخنس بن كعب ، خرجا ذات يوم للنهب والسلب – طبعا كل واحد لحاله – فلقي حصين أخنسا فقال له :
– من أنت ثكلتك أمك !
– فقال له الأخنس : بل من أنت ثكلتك أمك !
فتزايدا في القول حتى قال الأخنس : أنا الأخنس بن كعب ، فأخبرني من أنت وإلا قتلتك ؟
فقال له الحصين : أنا الحصين بن عمرو الكلابي .
فقال له الأخنس : فما الذي تريد ؟
قال الحصين : خرجت لما يخرج له الفتيان .
يقصد النهب والسرقة وقطع الطريق ، كما اشتهر عند الشعراء الصعاليك .
قال الأخنس : وأنا خرجت لمثل ذلك .
فقال له الحصين : هل لك أن نتعاهد ألا نلقى أحدا من عشيرتك أو عشيرتي إلا سلبناه ؟
قال الأخنس : نعم .
وأي عهد هذا الذي يجري بين اللصوص وقطاع الطرق ، عهد عنوانه الغدر في أي لحظة أو فرصة سانحة ، وهذا ما كان ، حيث خرجا وكل واحد منهما حذر أشد الحذر من صاحبه ، لأنهما يدركان خطورة بعضهما البعض .
أول ضحية لهذين المجرمين كان رجلا لقياه في الطريق فسلباه كل ما يملك من متاع ومال ، فقال لهما :
– هل لكما أن تردا بعض ما سلبتموه مني ، مقابل أن أدلكما على رجل بحوزته مغنم كبير جدا .
قالا : نعم .
فقال الرجل : هناك رجل من قبيلة لخم ، قد قدم من عند بعض الملوك ، وهو مُحمّل بأموال ومتاع كبير ، ولقد تركته في موضع كذا وكذا .
حينها اشتعلت نار الطمع في عيني الصعلوكين ، والعجيب أنهما ردّا بعض المال لذلك الرجل ، وتوجها أين يجلس الرجل من قبيلة لخم ، فوجداه جالسا يستظل بشجرة ، يتناول طعامه وشرابه ، فحيّياه وحيّاهما ، وعرض عليهما الطعام .
طبعا قبلا دعوة الرجل ، لكن المضحك في الأمر أنهما كانا راكبين فخاف كل واحد منهما أن ينزل من جواده أولا فيفتك به صاحبه ، فقررا أخيرا أن ينزلا معا في لحظة واحدة
فأكلا وشربا وتجاذبا أطراف الحديث مع الرجل اللخمي ، ثم إن الأخنس ذهب لقضاء حاجته أو شأن ما ، وحين رجع وجد حصينا قد قتل الرجل ودماءه تسيل وديانا ، فسلّ سيفه ، وصرخ في وجه صاحبه قائلا :
– ويحك ! فتكت برجل قد تحرّمنا بطعامه وشرابه .
– فقال الحصين : اقعد يا أخا جهينة – يقصد الأخنس – ، فلهذا وشبهه خرجنا
فأكملا شربهما وكأن شيئا لم يحدث ، وتحدثا ، وحاول الحصين أن يطيل مع صاحبه الحديث حتى يجعله منبسطا ومرتاحا فيغفل عن حذره ويفتك به ، لكنه لم يعلم أن صاحبه كان أشد منه مكرا .
قال الحصين : يا أخا جهينة : هل أنت للطير زاجر ؟
يقصد علمه بحركات الطير ولغته وغير ذلك .
قال الأخنس : وما ذاك ؟
قال الحصين : ما تقول هذه العقاب الكاسر ؟
قال الأخنس : وأين تراها ؟
قال الحصين : ها هي ذه .
فرفع رأسه إلى السماء مشيرا بأصبعه ، فما كان من الأخنس إلا أن نحره بسيفه في لمح البصر .
لنوضح أكثر هذا المشهد : حصين كان في خطته أن يسأل الأخنس عن علمه بلغة الطير ، وأراد أن يوهمه بوجود طائر يحلق في السماء حتى يتطلع إليه الأخنس ويرفع رأسه فينحره الحصين نحر الشاة .
لكن الأخنس فطن لهذه الحيلة فأوقع الحصين في حفرته التي حفرها ، ففتك به ، وأخذ كل المغانم والأموال ، وانصرف راجعا إلى قومه .
وفي طريقه صادف امرأة تبحث عن الحصين وتسأل عنه ، فقال لها : من أنت ؟
قالت : أنا صخرة امرأة الحصين .
قال : أنا قتلته .
فقالت : كذبت ، ما مثلك يقتل مثله ، واستمرت تبحث عن زوجها ، في حين رجع الأخنس إلى قومه وهناك أنشد أبياتا منها البيت الشهير الذي صار مضرب الأمثال ، حيث قال :
وكم من ضيغم ورد هموس * أبى شبلين مسكنه العرين
علوت بياض مفرقه بعضب * فأضحى فى الفلاة له سكون
وأضحت عرسه ولها عليه * بُعيْد هدوء ليلتها رنين
وكم من فارس لا تزدريه * إذا شخصت لموقعه العيون
كصخرة إذ تسائل فى مراح * وأنمار وعلمهما ظنون
تسائل عن حصين كل ركب * وعند جهينة الخبر اليقين
فمن يك سائلا عنه فعندي * لصاحبه البيان المستبين