مقالات

فاصل آخر عاطفيّ في زمن الإبادة:

إشراق. كرونةً

تدلف حصّتك في جامعة ليون الثالثة بالجنوب الفرنسيّ الذي تنزل عليه ضيفا مرّة أسبوعيا تلقي بعضا من “أحابيل البلاغة” دون أن تجرح المعنى وتمدح جرحه على طلبة وافدين من أعراق مختلفةٍ ولغاتٍ مختلفة تتعلّم معهم ضرورة بعضا من فنون الفِراسة. لا تغفل أن قامتك القصيرة قد تسيل لعاب الهيجان عندهم ولذا عليهم أن يخبروا بعضا من أفانين لسانك الطويل الذي سينوب عن قصور القامة الذي لم تختره. وفي الحقيقة لم تختر جينات اللسان السليط ولا البداهة الحسّاسة المفرطة.
أحبّ أن أرى في عيون الطلبة الرغبة في الإقبال على الدرس. لقد كنت بالأمس القريب أفضّل دروسا أو حصصا دون سواها وأشعر براحة تجاه أساتذة دون سواهم. ولعَمري فإنّ نجاحي العظيم يكمن في شعور خافق أنّهم يقبلون على الدرس بحبّ وهذا كافٍ.
بيد أنّ الفِراسة تبقى ناقصة حين أُدهش من طالبة تجيء آخر الفصل لتملي عليّ عناقا طويلا يليق بوداع فصل كامل. سألت نفسي في تلك اللحظة: ماذا الذي فعلت لها حتّى أستحق هذه “العبطة”؟
وتضمرُ فنون الفِراسة أكثر حين ألقى ابتسامة عريضة عندما يجدون أنني أنا مرّة أخرى في بداية الفصل الثاني. أحدّث نفسي بأنني لم أفعل سوى ما أعدّه واجبا يريح ضميري.
وجدت في الأسبوع الماضي رسالة على البريد الالكتروني بُعثت في عيد ميلادي -وطبعا لا أعرف مصدر معلوماتهم- فيها تهنئة وجملة أعادت بعضا من توازني الذي أخلّ به شعور الخذلان الجارف الذي يجتاحني منذ فترة وبعض الأسقام العنيدة : أنتِ أفضل أستاذة في العالم. لم يذهب إيقاع الجملة الفرنسيّ جماليّة التلقّي في العربيّة. ارتبكت قبل أن أجيب على هذا الاطراء المبالغ فيه والذي انتبهت إليه بعد أشهر عديدة.
وأمس وأنا أغادر القاعة ركضا نحو أخرى استوقفتني طالبة وقالت بينما تفتّش في حقيبتها إنّها أحضرت هدية لي! صعقتني جملتها وحاولت أن أعرف السرّ الذي دفعها إلى ذلك وطبعا أفهمتها بالفرنسية الباردة أنه لم يكن عليها التفكير في ذلك وبأنّني هنا من أجل واجبٍ لا أكثر.
مساء.. في باريس التي قفلت راجعة إليها تذكّرت العلبة الصفراء ففتحتها ورأيت أنها اسوارة عليها بجعة صغيرة جدا زرقاء اللّون. سخرت من التنّاص الاعتباطي فهذا واحد من ألواني المفضّلة. أمّا زينة الاسوارة- أعني البجعة الزرقاء – فتناصّ آخاذ مع مقطع تشايكوفسكي عن موسيقى البجع التي أسمعها كلّ يوم تقريبا. مقطع حزين لكنّه أليف في حالتي التي أعيشها منذ أشهر.
ستحمل هذه الهديّة شيئا من اسم الطالبة “ذكرى”
شكرا للذكرى على حسن “الابتداء”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق