مقالات

البِناءُ وَالْهَدْمُ: أ. د. لطفي منصور

يَقُولُ الشّاعِرُ الْبَصْرِي صالِحُ بنُ عَبْدِ الْقُدُّوسِ: مَنَ الطَّوِيل
– وَإنَّ عَناءً أَنْ تُعَلِّمَ جَاهِلًا
فَيَحْسَبُ جَهْلًا أَنَّهُ مِنْكَ أَعْلَمْ
– مَتَى يَبْلُغُ الْبُنْيانُ يَوْمًا تَمامَهُ
إذا كُنْتَ تَبْنِيهِ وَغَيْرُكَ يَهْدِمُ
يَقُولُ عالِمُ النَّفْسِ الْمَشْهُورُ زيغموند فرويد يُولَدُ الْإنْسانُ بِغَرِيزَتَيْنِ مِنْ واجِبِ الْمُجْتَمَعِ الْإنْسانِيِّ إصْلاحُهُما، هَما غَريزَةُ الْجِنْسِ وَغَرِيزَةُ الْهَدْمِ والتَّدْمِير، وَإلّا يَخْرُبُ الْمُجْتَمَعُ.
أَمّا الْمُتَنَبِّي فَقَدْ رَدَّ هَذا إلى غَرِيزَةٍ مَطْبوعَةٍ في النَّفْسِ فَقالَ: مِنَ الْكامِلِ
– وَالظُّلْمُ مِنْ شِيَمِ النُّفُوسِ فَإنْ تَجِدْ
ذا عِفَّةٍ فَلِعِلَّةٍ لا يَظْلِمُ
وَسَبَقَهُمْ جَمِيعًا أَبُو ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيُّ فَقالَ: مِنَ الْكامِلِ
وَالنَّفْسُ راغِبَةٌ إذا رَغَّبْتَها
وَإذا تُرَدُّ إلى قَلِيلٍ تَقْنَعُ
ثُمَّ جاءَ الْبُوصِيري الْمِصْرِي بَقَصِيدَةِ الْبُرْدَةِ، وَقَدْ حَمَلَ عَلى النَّفْسِ بِأَبْياتٍ مَشْهُورَةٍ أَهَمُّها:
– وَالنَّفْسُ كَالطِّفْلِ إنْ تُهْمٍلْهُ شَبَّ عَلى
حُبِّ الرِّضاعِ وَإنْ تَفْطِمْهُ يَنْفَطِمِ
لَوْ تَدَبَّرْنا هَذِهِ الْأَقْوالَ لَبانَتْ صِحَّتُها لَنا كَفَلكِ الْفَجْرِ، فَالْهَدْمُ عِنْدَ صالِحِ بْنِ عَبْدِ الْقُدُّوسِ أَسْرَعُِ كَثيرًا مِنَ الْبِناءِ، فَمِنَ الْمُسْتَحِيلِ أَنْ يَتِمَّ الْبِناءُ مَعَ الْهَدْمِ عُلُوًّا وَاكْتِمالًا. وَيَنْطَبِقُ هَذا عَلى الْمَجازِ. فَالْأَبُ الَّذِي هُوَ الْمَثَلُ الْأَعْلَى في الِاسْتِقامَةِ لِابْنِهُ، إنْ لَمْ يَمْنَعْهُ عَنِ الِاخْتِلاطِ بَمَعاشِرِ السُّوءِ تَذْهَبْ جُهُودُهُ التَّرْبَوِيَّةُ عَبَثًا بِلا فائِدَةٍ، لِأَنَّ أَقْرانَ السُّوءِ لَهُمْ تَأْثِيرٌ كَبيرٌ عَلى زَمِيلِهِمِ فَحَذارِ حَذارِ!!
الظُّلْمُ عِنْدَ الْمُتَنَبِّي غَريزَةٌ في النَّفْسِ، فَهُوَ يَرَى أَنَّكًَ إذا رَأَيْتَ شَخْصًا لَا يَظْلِمُ لَيْسَ لِأَنَّهْ عَدْلٌ، وَإنَّما لِعِلَّةٍ لا تَمُتُّ إلى الْعِفَّةِ بِصِلَةٍ، كَالضَّعْفِ، وَعَدَمِ الِاسْتِطاعَةِ والْجُبْنِ.
مَعْنَى الظُّلْمِ وَضْعُ الشَّيْءِ في غَيْرِ مَوْضِعِهِ. فَهُوَ هَدْمٌ لِلْحَقِيقَةِ والطَّبيعَةِ.
يَرَى الشُّعَراءُ وَالٍحُكَماءُ بِالنَّفْسِ الْأَمّارَةِ بِالسُّوءِ، وَقَدْ فَشِلَ الْعَقْلُ عَنْ قَمْعِها، مَصْدَرَ شَقاءِ الْإنْسانِ . يَقُولُ الْبُوصِيرِي في النَّفْسِ:
– وَإنَّ أَمّارَتِي بِالسُّوءِ ما اتَّعَظَتْ
مِنْ جَهْلِها بِنَذِيرِ الشَّيْبِ وَالْهَرَمِ
وَلا أَعَدَّتْ مِنَ الْفِعْلِ الِجَمِيلِ قِرَى
ضَيْفٍ أَلَمَّ بِرَأْسِي غَيْرَ مُحْتَشِمِ
النَّفْسُ الْأَمّارَةُ بِالسُّوءِ هِيَ مَصْدَرُ الشُّرُّورِ، فَهِيَ لا تَعْتَبِرُ الشَّيْبَ نَذِيرًا، وَلا الْهَرَمَ رادِعًا لَها عَنِ الشَّهَواتِ. وَلَمْ تُقَدِّرْ ضَيْفًا لَمَعَ في رَأْسِها بَياضًا لِيُكْسِبَها وَقارًا.
فَالنَّفْسُ تَحْتاجُ إلى تَهْذِيبٍ كَما قالَ الشّاعِرُ:
عَلَيْكَ نَفْسَكَ هَذِّبْها فَمَنْ مَلَكَتْ
قِيادَهُ النَّفْسُ عاشَ الدَّهْرَ مَذْمُوما
وَهَذا ما يُريدُهُ فرويد في تَوْجيهِ الْغَرِيزَتَيْنِ . الْأُولَى عَنْ طَريقِ التَّرْبِيَةِ الْجِنْسِيَّةِ. Sublimation التَّحْويلاتِ وَالبَدائلِ ، وَخاصَّةً في جِيلِ الُمُراهَقَةِ.
وفي الثّانِيَةِ مُنْذُ جِيلِ الطُّفُولَةِ
بِتَفْكٍيكِ الْأَلْعابِ وَتَرْكِيبِها، وَأَلْعابِ الْبِناءِ وَالْهَدْمِ وَما شابَهَ.
أَقْوالٌ رَأَيْتُ مِنَ الضَّرُورَةِ أَنْ أَضَعَها أمامَ أَعْيُنِ الْقُرّاءِ لِأَهَمِّيَّتِها في حَياتِنا الْيَوْمِيَّةِ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق