جاءَ الناسُ إليّ معزّين وبالكاد تذكّرت وجوههم لِكثرة حزني على زوجي ورفيقي طوال 12 سنة. لقد كان عزيز مِن أولئك الرجال الذين يولَدون لإسعاد الآخرين ولقد قام بمهّمته معي على كامل وجه. فلم يكسفني يومًا أو يرفض لي طلبًا، ولا أتذكّر أنّنا تشاجرنا ولو مرّة واحدة. كان الأمر وكأنّنا وُلدنا لِبعضنا.
ولكنّني لم أستطع اعطاءه ما كان يحلم به، أي ولدًا أو بنتًا، بالرّغم مِن زيارات عديدة للأطبّاء وفحوصات شتّى. وفي كلّ مرة كان الجواب: “للأسف، سيّدتي، ولكنّكِ عاقر وما مِن شيء سيُغيّر ذلك.” ورضخنا للأمر الواقع، ولكن وراء وجه عزيز الضاحك كنتُ أرى حزنه وخَيبة أمله. كان يُريد عائلة كبيرة لأنّه كان أبنًا وحيدًا وعانى كثيرًا مِن الوحدة خاصة أنّ أباه مات باكرًا.
وعَمِلَ زوجي على الإهتمام بأمّه مِن كلّ النواحي، وأوقَف دراسته ليذهب إلى العمل ويجني المال. وبسبب ذكاءه ونشاطه، إستطاع عزيز بناء مستقبلٍ لامعٍ وجنى ما يكفيه حتى ولد الولد، هذا لو أنجَبَ.
عرضتُ عليه أن يتركني وأن يتزوّج مِن غيري، ولكنّه رفَضَ رفضًا قاطعًا بسبب حبّه الكبير لي، وقال لي إنّه يقبل بِمشيئة الله وهو مستعدّ للعيش مِن دون ذريّة.
بعد أيّام على دفن زوجي، زارَتني حماتي وتعانقنا وجلسنا صامِتَتَين. كنّا قد فقدنا كلتانا رجل حياتنا وكان حزننا مشتركًا ومتوازيًا ووحدها حماتي كانت تستطيع فهم وضعي. ولكنّ المرأة لم تأتِ فقط لِتواسيني بل لِتطلعني على أمر أسمَته “بغاية الأهميّة”.
نظرتُ إليها بِتعجّب:
ـ وهل هناك مِن أمر أهمّ مِن موت عزيز؟
ـ لا… ولكن بموته وضَعني ابني بموقف حرج جدًّا… خاصة تجاهكِ.
ـ تكلّمي، أرجوكِ!
عِديني بأن تتقبّلي ما سأقوله برويّة… أنا امرأة عجوز ولا أتحمّل الإهانات.
ـ لم أهِنكِ يومًا، يا حماتي، ولن أفعل أبدًا… قولي ما عندكِ.
ـ حسنًا… عزيز تركَ لكِ الكثير، أليس كذلك؟
ـ هل تحتاجين إلى المال، يا حماتي؟
ـ لا! لدَيّ ما يكفيني، فلقد خصّصَني عزيز بمبلغ كبير… وستعلمين قريبًا أنّني لستُ إلى جانبكِ الوريثة الوحيدة.
ـ هذا مال عزيز ومِن حقّه إعطاؤه لِمَن يشاء.
ـ حبيبتي… أولاده ورَثوه أيضًا.
ـ أولاد مَن؟ لم أفهم قصدكِ.
ـ أولاد عزيز الثلاثة… أجل لقد تزوّج مِن غيركِ سرًّا وأنجبَ منها ومِن ثمّ رحَلَت وتركَت كلّ شيء وراءها.
ـ لا أصدّقكِ! هل جئتِ لتنتقمي منّي لأنّني لا أزال حيّة ومات ابنكِ؟ كيف تُقدِمين على خلق هذه الكذبة عن عزيز؟ كان أشرف رجل على وجه الأرض!
ـ وأنجبَ مِن غيركِ… هذا واقع عليكِ مواجهته… فضّلتُ أن أكون التي تخبركِ بالأمر إحتواءً لردّة فعلكِ.
ـ عزيز تزوّج مِن امرأة وأنجبَ منها؟ متى فعَلَ ذلك؟
ـ عندما قال لكِ إنّه ذاهب إلى تركيا مِن أجل أعماله.
ـ حدَثَ ذلك منذ أكثر من سبع سنوات، وكان فعلاً في تركيا.
ـ وما أدراكِ؟ أكنتِ معه؟ لا… تزوّج وذهب لِقضاء شهر عسله في أوروبا وليس في تركيا… إسمعي… ما حدث ليس مِن ذنب هؤلاء الأبرياء… ألاّ يكفي أنّ أمّهم تركتهم وأنّهم عاشوا معي وبالكاد كانوا يرَون أباهم؟
ـ وليس ذنبي أيضًا! ماذا تريدين منّي؟
ـ لاشي… كان عليّ إخباركِ.
ـ أريدكِ أن تتركيني لوحدي… أنا بحاجة إلى استعاب ما علمتُ به الآن، أيّ أنّ زوجي المحترم كان خائنًا… عرضتُ عليه أن يُطلّقني ويبحث عن امرأة باستطاعتها الإنجاب، ولكنّه رفَضَ وفضّل أن يكذب عليّ طوال سنين… الماكر!
ـ كان يحبّكِ… لم يكن باستطاعته العيش مِن دونكِ.
ـ لم يُحبّني كفاية للعيش معي بدون أولاد… ماذا لو كان هو العاقر؟ هل كنتما ستقبلان أن أنجب مِن آخر؟ بالطبع لا! أتركيني، يا كاذبة! مثّلتِ عليّ دور الحمى المحبّة… إعتبرتُكِ أمّي الثانية وكنتُ أزوركِ كلّ يوم حتى قرّرتِ العيش في الجبل البعيد… آه… فهمتُ الآن سبب انتقالكِ إلى هناك! هربتِ لتخفي عنّي هؤلاء الأولاد! أخرجي مِن بيتي!
وأقفلتُ الباب وراءها بقوّة، وركضتُ أبكي على حبّ كان في الحقيقة سرابًا، وأسِفتُ على إخلاصي وتفانيّ لرجل باعَني وعاش حياة ثانية مع عائلة كوّنها سرًّا. مزّقتُ صَوَره، وخلعتُ ثياب الحداد لأنّني لم أعد حزينة عليه بل على نفسي. وشتمتُه وأهنتُه ولعنتُ الرجال بأسرهم.
وحصلتُ على حصّتي في الميراث، وقرّرتُ بيع المنزل والسفر بعيدًا عن كلّ ما يُمكنه تذكيري بعزيز. وجاءَت شركة مختصّة وضّبَت كلّ ما كنتُ أنوي أخذه معي وأصبحتُ جاهزة لحياتي الجديدة.
ولكن قبل أيّام قليلة مِن رحيلي، سمعتُ جرس الباب يُقرع، وعندما فتحتُ رأيتُ أمامي ثلاثة أولاد ينظرون إليّ، الواحد بخوف والثاني بحشريّة والصغير بِفَرَح. وبالطبع علِمتُ أنّ هؤلاء كانوا أولاد زوجي. وللحقيقة. إحترتُ لكيفيّة التعامل مع هذا الوضع غير المنتظر.
وبعد ثونٍ، إستطعتُ التكلّم:
ـ مَن قادكم إلى هنا؟
قال كبيرهم:
ـ جدّتنا… طلبنا منها أن نتعرّف إليكِ بعدما أخبرَتنا أنّ والدنا لدَيه زوجة… وقالت لنا إنّكِ سيّدة جميلة وطيّبة.
وأضافَ الثاني:
ـ وكانت على حق… أنتِ فعلاً جميلة!
أمّا الثالث فسألني:
ـ هل لديكِ حلوى؟
عندما سمعتُ ذلك، لم أتمكّن مِن الحفاظ على جدّيّتي وأبتسمتُ:
ـ أجل لديّ حلوى… إنتظروني هنا.
ولكنهم دخلوا ورائي وجلسوا في الصالون بعدما أزالوا الغطاء عن المقاعد.
ـ منزلكِ جميل! أين كان يجلس البابا؟
– هناك.
وانهالَت الدموع على خدَّي لأنّني لمستُ براءة هؤلاء الصغار ولأنّني تذكّرتُ كنبة عزيز المفضّلة.
وقال لي الصّغير:
ـ لما الأثاث مغطّى وأمتعتكِ قرب الباب؟ أنتِ مسافرة؟
ـ أجل… ولن أعود.
ـ ستتركينا كما تركتنا أمّنا؟
وركَضَ المسكين إلى أخوَيه وبدأ بالبكاء. نظَرَ إليّ الكبير:
ـ لم يعد لدَينا أحدٌ.
ـ لديكم جدّتكم… هي تحبّكم كثيرًا.
ـ إنّها مريضة وعجوز… ستموت يومًا.
وعند ذلك، قرّرتُ تغيير الأجواء بتقديم العصير والحلوى لهم. ولأنّهم كانوا صغارًا، نسوا حزنهم بسرعة. وأخبروني عن المدرسة وعن رفاقهم وعن أبيهم الذي كان يزورهم مِن وقت إلى آخر. ولم أشعر بالوقت وهو يمّر إلاّ عندما رأيتُ الصغير نائمًا، فسألتُ الكبير:
ـ متى ستأتي جدّتكم لأخذكم؟ لقد جاء المساء.
ـ قالت لنا إنّنا سننام هنا الليلة.
حضّرتُ لهم العشاء وغرفة النوم، وأدخلتُهم الحمّام فما لبثوا أن ناموا جميعهم. ودخلتُ غرفتي لأنام بدَوري، فلاحظتُ أنّني أبتسم. لم تكن بسمة عاديّة، والحق يُقال إنّني لم أبتسم هكذا يومًا بهذا الكمّ مِن الحنان. والحبّ كله الذي أحببتُه في حياتي، لم يكن يُوازي الحبّ الذي كان في قلبي في تلك اللحظة. ووضعتُ رداءً على كتفَيّ وذهبتُ إلى غرفة الأولاد. أخذتُ كرسيّاً وجلستُ عليه وقضيتُ الليل بأسره أنظر إليهم وهم نيامٌ. وعندما طلَعَ الضوء، كنتُ متأكّدة من أنّهم سيبقون معي وأنّهم كانوا ميراثي الحقيقي مِن عزيز.