يَسْأَلونَ عَنِ الْجَنَّةِ أَيْنَ هيَ، وَيَسْأَلونَ عَنْ جَهَنَّمَ أَيْنَ هِيَ. أَمّا الْجَنَّةُ السَّماوِيَّةُ فَلا نَراها وَلا نُحِسُّها، وَلا يَعْلَمُ بِها إلَّا اللَّهُ خالِقُها؛وَأمّا جَهَنَّمُ السَّماوِيَّةُ فَلا حَصْرَ لِعَدَدِها، انْظُروها في الْمَجَرّاتِ الْمُلْتَهِبَةِ، وَمِنْها شَمْسُنا مَصْدَرُ الْحَياةِ عَلَى الْأرضِ .
يَسْأَلُونَ عَنِ الْجَنَّةِ وَمُقَدِّمَتُها تَحْتَ أَرْجُلِهِمْ، وفي أَرْضِهِمْ وَرِياشِهِمْ، وَأَرْزاقِهِمِ وَمَعاشِهِمْ، وَفُرُشِهِمْ، وَسُباتِهِمْ، وَصَباحِهِمْ، وَغَيْثِهِمْ، وَأَيْنَما تَوَجَّهُوا وَطافُوا في هَذِهِ الْكُرَةِ الْأرْضِيَّةِ الّتي هِيَ صَغيرَةٌ بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِها مِنْ بَناتِ الشَّمْس. فَالمُشْتَرِي يَكْبُرُ الْأرْضَ بِأَلْفِ مَرَّةٍ، وَلَهُ أرْبَعَةُ أَقْمارٍ مِنْها ما هُوَ أَكْبَرُ مِنَ الْأَرْضِ ، وَزُحَلُ يَكْبُرُ الْأَرْضَ بِثَمانِمِائَةِ مَرَّةٍ، وَلَهُ ثَمانِيَةِ أَقْمارٍ تَدُورُ حَوْلَهُ.
لَكِنَّ اللَّهَ كَرَّمَ الْأَرْضَ بِالْحَياةِ وَالنَّعيمِ وَسائِرِ المَلَذّاتِ، وَفَضَّلَها عَلَى سائِرِ الْكَواكِبِ كما فَضَّلَ الْإنْسانَ عَلَى سائِرِ الْحَيَوانِ .
لَوْ رَجَعْنا إلى وَصْفِ الْجَنَّةِ كَما وَرَدَ في الْقُرْآنِ، نَجِدُ أنَّ ما في الْجَنَّةِ قائِمٌ مِثْلُهُ عَلَى الْأَرْضِ. فَاللَّبَنُ والعَسَلُ في كُلِّ مكانٍ ، والثِّمارُ الْمُتَعَدِّدَةُ الْمَذاقِ تَغْمُرُ الْأرضَ، والْأَنْهارُ الْعَذْبَةُ أَكْثَرُ مِنْ أنْ تُحْصَى، وَالطُّيورُ والْوُرودُ وَالْحَدائِقُ وَالْأزْهارُ تَعُمُّ الْبِلادَ، والْحَواري لا يُمْكِنُ أنْ تَكونَ أَجْمَلَ مِنْ نِسائِنا وَأَطْفالِنا، لِأنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ يَقُولُ “وَلَقَدْ خَلَقْنا الْإنْسانَ في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ”، وَليْسَ بَعْدَ حُسْنِ اللَّهُ حُسْنٌ.
هَذا الإنْسانُ الَّذي كَرَّمَهُ اللَّهُ لَمْ يَرْعَ هَذِهِ الْكَرامَةَ وَلَمْ يُعْطِها حَقَّها. فَعاثَ في الْأرْضِ فَسادًا، وابْتَدَعَ الْحُروبَ الْمُدَمِّرَةَ، وَأَهْلَكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ، وَلَوَّثَ التُّرابَ والْهّواءَ بَالسُّمومِ القاتِلَةِ، والْجَراثيمِ والفيروساتِ الْمُهْلِكَةِ، لِيُسَيْطِرَ عَلَى الْأرْضِ وَيَعْمَلَ بِها ما يَشاءُ دُونَ حِسابٍ.
فَلَوْ تَعَمَّقْنا في طَبيعَةِ الْبَشَرِ لَرَأْيْناهُمْ يَنْقَسِمُونَ إلى فِئَتَيْنِ : فِئَةُ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَفِئَةُ أَهْلِ النّارِ.
أَهْلُ الْجَنَّةِ هُمْ جَنَّةٌ بالْفِعْلِ بِخِصالِهِم. وَأَوَّلُها الْمَحَبَّةُ. الْحُبُّ أَعْظَمُ مِنَّةٍ مِنَ اللَّهِ، حُبُّ الْآخَرِ بِلا تَمْيِيزٍ، لِأنَّهُ بَشَرٌ، وثانيها الْخُلُقُ الطَّيِّبُ مَعَ جَمِيعِ النّاسِ . وَثالِثُها التَّسامُحُ وَالاعْتِرافُ بِحُقوقِ الْآخَرِ . وَرابِعُها الْمُروءَةُ وَالصَّبْرُ والقَناعَةُ، وَالْخامِسُ التَّعاوْنُ مَعَ أفْرادِ الْمُجْتَمَعِ في العَمّلِ وَالْإنتاجِ ، وَتَرْبٍيَةِ النَّشْءِ عَلَى الفضيلَةِ والْعِلْمِ وَالأَدَبِ.
إنِّي واثِقٌ أَنَّ الْأبَ وَالْأُمَّ إذا تَمَسَّكا بِهَذِهِ الْقِيَمِ يَنْقَلِبُ مَسْكَنُهُمْ إلى جَنَّةٍ وَنَعِيم.
أمّا أَهْلُ جَهَنَّمَ فَؤلَئكَ الْأَشْرارُ الَّذينَ يَكْفُرونَ بِتِلْكَ الْقِيَمِ، الْمُتَسَلِّطُونَ عَلَى البَشَرِيَّةِ، سَفّاكُو الدِّماءِ، وَآكِلُو حُقُوقِ النّاسِ ، لا يَرْدَعُهُمُ دِينٌ ولا ضميرٌ وَلا رَحْمَةٌ، لا تَجِدُ الْمَحَبَّةَ في مَعاجِمِهمْ إلّا لِأَنْفُسِهِمْ، شِعارُهُمْ ما قالَ شَوْقي في مسرَحِيَّةِ مَجْنون ليلى:
نَحْنُ بَنو جَهَنَّما نَغْلِي كَما تَغْلي دَما
نَثُورُ في الْأرْضِ كَما ثارَ أبونا في السَّمَا
أيْ إبليسُ صاحِبُ أَوَّلِ فِتْنَةٍ في الْعالَمِ، عَندَما تَمَرَّدَ عَلَى اللّهِ وَرَفَضَ السُّجودَ لِآدَمَ عليهِ السَّلامُ.
