مقالات

مقايضة / رياض الصالح

سامحيني يا عزيزتي فما عدت أقوى على الكلام .. نفسيتي متعبة للغاية .. و مزاجي تفلت من معقله .. هائج كالبحر .. لقد قطعت الحبال جميعاً .. و تراخت يداي من فرط اليأس في كبح الجماح المزمن .. لا أعرف هيئة الوضع في نفسي .. و كأنها مثال حي للفوضى و لوحة فنية معبرة عن ذلك اللاتعبير الذي تتقن وصفه تماماً .. تحفز دائم لمعركةٍ ما .. و حرب باردة أبدية .. و كأنني في استعداد مستمر لجلب الأحصنة و ابتداء غارة الغزو على القبائل البدائية التي لا زالت تستوطن غاباتي .. استنزاف كامل لترسانة استعداداتي التي غنمتها عبر حروفي المستعرة ..
و بما أنني أعاني من تبلد في التعبير .. و تلبد في زحمة الأفكار التي تضغط على جمجمتي .. فدعيني أقص عليك ما رأيته بأم عيني و هما مغمضتان .. تلك الليلة .. و أنا بوجهي منكفئ على وسادتي أصارع النوم .. فقد فتحت أمامي هوة مطلة على بحر مظلم .. علمت بماهيته من تناثر قطرات المطر الكثيف على سطحه .. فقد كان الليل قد أحكم ظلامه .. و خلع هو بدوره قناعه الأزرق .. ليظهر بلونه و شكله الحقيقي ..
لا أعرف ما الذي أتى بهذه الصورة في معرض خيالي الكاسد .. كما لا أدري لماذا أحدثك بهذه التفاهات .. فلم تكن السماء يومها ممطرة .. كما هي نفسي الآن .. و لم يخطر الأمر كله على بالي قبل ذلك .. كما هو الآن .. لكنه خالجني شعور صادق و رغبة حقيقية برمي نفسي عبر تلك الهوة .. لقد امتلكت حينها الشجاعة الكاملة لمثل هذا الفعل .. تذكرت ما قلته لك مسبقاً بأنني ما عدت أخشى خوفاً و لا حتفاً .. يبدو أن ذلك ما أثارني للكتابة إليك ..
أرجو ألا تملي من هلوساتي هذه .. لا أريد أن يصبح الذي بيننا مجرد تفسير لذلك الشعور الذي اصطدته تلك الليلة .. سألت البحر ليلتها بعدما قررت ألا أقذف بنفسي فيه .. لا خشية منه .. و إنما هي رغبتي بالاحتفاظ بدفء السرير و نعومته .. و هل يمنعنا من خوض التجارب إلا رغباتنا المقيدة .. و مسؤولياتنا المملة .. و ذلك الكسل المختبيء .. القابع في أعماق شخصياتنا .. و المتقنع بمئات التبريرات ..
نعم سألته بجرأة متناهية .. و صارحته بآرائي فيه .. كنت أجره بهذه الوسيلة التي لا أعرف غيرها ليشاركني هو كذلك بصراحته .. فأنا لا أتعلم مع كثرة ما تلقيته من دروس .. أن استدراج الآخرين بنفس الطعم الذي أُستدرَجُ به .. لا ينفع على الغالب .. فليس الناس حمقى .. و لست أنا ذلك المتفذلك الداهية .. شعرت وقتها أن تلك القطرات ما كانت مطراً .. لم تكن إلا مجرد سائلٍ منحدرٍ من نفسٍ دامعةٍ .. و عينٍ مطيرة .. يحاول أن يواجه البحر بما لديه من قدرة زائفة على ممارسة أنانية الغرائز .. ليجد أن ذلك الكيان الضخم عبارة عن أستاذ متفرد متبَحّر في ذلك المضمار ..
أدركت يا عزيزتي .. أن ما تبرع الطبيعة في غرسه فينا نحن البشر .. لا يختلف كثيراً عما هو موجود بالفعل .. فقد كنت أحاول شرح ذلك المصطلح اللئيم للبحر .. مغبة تقليد البشر في أفعالهم .. فوجدته قد سبقنا بأشواط .. بل شعرت أننا مجرد تلاميذ صغار .. نجلس مبهورين دوماً في حضرته .. حتى تلك القطرات .. لم تجد مصباً لها في النهاية إلا فيه .. كما فعلت الأنهار .. فعلمت أن استنكاري الدائم لأنانية الإنسان .. ضرب من جهلي الساذج .. و رضاي بالمستوى الأسفل لما تصالح عليه البشر من قدر لازم من أنانية البقاء و العدوان و الارتقاء ..
اعذريني يا عزيزتي .. لقد باءت محاولاتي في فهم تلك الصورة بالفشل الذريع .. لقد حاولت مقايضة ذلك الكائن الأهوج بما لدي من دموع .. لعلي أصل معه إلى العمق .. لكنه رفض و بشدة .. و اكتفى بتعريفي على سطحه البارد .. و وجهه الصارم .. و انشغاله بما هو أهم من آلامي و أوجاعي .. ليحتفظ بأسراره وحده بعد أن كشف أسراري جميعها .. و ليُذريها باستهتار لتُنبتَ رذاذاً متطايراً على وجه الأمواج ..
دعيني أقايضك يا عزيزتي بما أقدر على فعله .. دعيني أقايضك بحب صادق يملأ ما تبقى لروحي من أنفاس .. و تعطيني أنت وعداً بأن تبقى ذكرياتنا بنفس الصورة التي عهدتها .. و دون إخلالٍ مفسدٍ .. قد يتمكن من تشويهها .. أو يتركها تتقشر بأيادي النسيان .. أقسم لك .. أن صورة ثغرك البسام في لوحة ذكرياتي .. أجمل و أنقى .. بل أدعى للإلهام .. أضعافاً أكثر .. من تلك الهوة المقيتة .. و التي قابلت فيها تجربة بشرية أو بحرية .. تثير جنوني .. و تستنزف طاقتي .. و تبعثر سكينتي.. في ليلة صماء .. هائجة .. بعيدة عن ملمس يديك على رأسي ..

# بقلم
# رياض الصالح

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق