تمهيد
لا أغالي إذا أكّدت على أهميّة اكتساب مهارات القراءة وإتقانها، وبصورة خاصّة اكتساب عادة القراءة الذاتيّة التي تعتبر من أهمّ العادات التي تسهم في نجاح الإنسان وتقدّمه في حياته المهنيّة، وتحقّق له الكثير من المكاسب في حياته النفسيّة والاجتماعيّة، لذلك، تحرص الشعوب والأمم المتقدّمة على إكساب مواطنيها هذه العادة، ويشارك في هذه العمليّة عدّة أطراف أو وسطاء يسهمون في غرس عادة القراءة وتذويتها لدى الأبناء:
– البيئة المنزليّة – الوالدان وأفراد الأسرة.
– الحضانات والروضات والمدارس في مراحلها المختلفة.
– وسائل الإعلام/الاتصال المختلفة:
– الصحافة والمجلات.
– الإذاعة والتلفزيون.
– السينما والمسرح.
– شبكة المعلومات (الإنترنت).
– المجتمع بمؤسساته وبتأثير “الثقافة” السائدة فيه.
وأعتقد أن التهافت على استخدام التلفزيون والحاسوب والهاتف الخلويّ ووسائط التواصل الاجتماعيّ لا يشكّل بديلًا عن القراءة من المصادر الورقيّة أو الإلكترونيّة؛ فالقراءة تحقّق الفهم والتعمّق، وفيها متعة خاصة لا تتوفّر في مشاهدة التلفزيون ولا في غيره من وسائل الاتصال الحديثة.
رغم هذه الأهميّة للقراءة وتأثيرها إلّا أنّنا نلاحظ ظاهرة العزوف عن القراءة المتفشيّة في ربوعنا، ولا تقتصر هذه الظاهرة على عامّة الناس، بل قد تشمل المتعلّمين وحملة الشهادات العليا.
أمّا أهمُّ الأسباب والعوامل للعزوف عن القراءة الذاتيّة فهي:
– عدم توفّر وعيٍ كافٍ – لدى الأطراف والوسطاء المذكورين أعلاه – الأهل، المؤسسات التعليميّة ووسائل الإعلام … – بأهميّة القراءة الذاتيّة وانعكاساتها على القرّاء في مجالات حياتهم المختلفة.
– عدم توفّر القدوة والمثل للمحاكاة – لدى غالبيّة الأهل والمعلّمين – في حبّ القراءة والإقبال عليها.
– عدم توفّر البيئة الداعمة الكافية من مكتبات بيتيّة أو مدرسيّة ومكتبات عامّة تسهم في تحبيب القراءة وتذويتها لدى المواطنين.
– تنافس وسائل الإعلام المختلفة واستئثارها بأوقات الفراغ، والإقبال على استخدام تلك الوسائل بصورة مفرطة.
– التجارب المحبطة في تعلّم القراءة في المراحل الأولى للمتعلمين، ممّا قد ينفّرهم من القراءة ويبعدهم عنها.
لماذا نحتاج إلى غرس عادة قراءة الأدب وتذوّقه؟
إنّ غرس عادة القراءة الذاتيّة تعتبر ضرورة ملحّة للنصوص الوظيفيّة والنصوص الأدبيّة على حدّ سواء، ولكنّني سأركّز على غرس عادة القراءة للنصوص الأدبيّة على أنواعها – النثريّة والشعريّة – للأسباب التالية:
الحاجة إلى الأمان؛ الأمان الماديّ والأمان النفسيّ، الحاجة إلى الحبّ والانتماء، الحاجة إلى التقدير، الحاجة إلى تحقيق الذات، والحاجة إلى المعرفة والفهم… (أدير كوهين، 1980: 27- 45).
مراحل لغرس عادة قراءة الأدب وتذوّقه:
تتحقّق عادة غرس قراءة الأدب وتذوّقه بصورة تدريجيّة، وتمرّ بمراحل من حياة الأفراد، بدءًا بالطفولة المبكّرة الغضّة، واستمرارًا بالمراحل التالية حتّى البلوغ،
والمفروض أن نراعي الميول القرائيّة والقدرات بحسب الشرائح العمريّة، ونحسن اختيار النصوص الأدبيّة الملائمة، ونحافظ على مبدأ التحبيب والتشويق لا الإلزام والإكراه في تقديم الأعمال الأدبيّة للقرّاء.
وسأركّز حديثي على ثلاث مراحل:
تعتبرُ السنواتُ الخمس الأُولى في حياة الطفل، وقبل الالتحاق بالمدرسة، سنواتٍ حاسمةً في بناء شخصيّته وبلورة مفاهيمه وقِيَمه ومواقفه في المستقبل!
ولا شكّ، أنّ القراءةَ تعتبر من أَبرز العوامل والمؤثّرات في تنشئة الأَفراد وصقل الشخصيّة المنشودة.
وقد أُثبِت أَنَّ “عشق” القراءة والإِقبال عليها يتمُّ غرسُها في هذه السنوات الغضّة من عمر الأطفال، وهنا يأتي دورُ الأسرة – خاصّة الأمّ – ثمّ الروضة في تحبيب القراءة وتذويتها.
وقد قيل: “اقرأ لطفلك لتعوّده القراءة منذ الصغر، فمن لم يُقرأ له في الصغر، فلن يَقرأ لنفسه في الكبر“.
ومن التوصيات المقترحة للأهل لغرس عادة القراءة للأبناء نذكر:
وفي هذه المرحلة تسهم رياض الأطفال، أيضًا، في غرس براعم التنوّر القرائيّ ومحبّة الأدب إذا حرصت على توفير“مكتبة” متواضعة تحتوي على قصص وأناشيد وأغانٍ وكتب ملائمة للأطفال في هذه المرحلة العمريّة، والمتوقّع أن تقوم المربيّات في الروضات برواية أو قراءة النصوص النثريّة والشعريّة للأطفال بطريقة مشوِّقة مع فعاليات إبداعيّة تشرك الصغار في الرسم والغناءوالنقاش مع إبداء الآراء والانطباعات حول ما يُقرأ أو يُروى. (منهج تعليميّ لرياض الأطفال الرسميّة، 2008: 75-91)
في هذه المرحلة يتمّ تعليم الطفل القراءة وإتقان مهارات الفهم بمستوياتها المختلفة، وتدريجيًّا نشجّع الطفل على القراءة الذاتيّة المستقلة لنصوص أدبيّة وكتب تلائم نضجه وميوله، وعدم الاكتفاء بالنصوص المقرّرة والواردة في كتب تعليم اللغة العربيّة.
ففي “منهاج تدريس اللغة العربيّة وآدابها للمدرسة الابتدائيّة العربيّة –الصفوف: الأوّل – السادس” (1989) – الذي أشرفتُ على إعداده – أدرجنا موضوع القراءة الموجّهة والحرّة كجزء أساسيّ من المنهج، واقترحنا تخصيص حصّة أسبوعيّة للمطالعة، وأوصينا المدارس والمعلّمين أن يحثّوا طلاب الابتدائيّة على قراءة الكتب الأدبيّة الخارجيّة حتّى نهاية الصفّ السادس، وقدّمنا اقتراحات مفصّلة في كتب “دليل المعلّم” حول فعاليّات وإرشادات لتفعيل حصّة المطالعة ومتابعة قراءة جميع الطلاب، مؤكّدين على مبدأ “التحبيب والتشويق لا الإكراه والإلزام”.
من أبرز التوصيات والفعاليّات التي اقتُرِحت لتشجيع القراءة الذاتيّة لدى الطلاب وتذويتها نذكر:
رسم رسمة مستوحاة من الكتاب، كتابة انطباع حول شخصيّة أعجبتهم (أو لم تعجبهم) من شخصيّات الكتاب، رسالة لإحدى شخصيّات الكتاب، أو رسالة للمؤلّف/ة، اختيار اقتباسات أعجبتهم من الكتاب، كتابة دعاية أو إعلان توصية بقراءة الكتاب، إعداد الطلاب غلافًا آخر للكتاب، اقتراح عنوان آخر بديل للكتاب، كتابة نهاية أخرى للكتاب، تمثيل القصّة أو أقسام منها…
وجاء المنهج الجديد “التربيّة اللغويّة العربيّة للمرحلة الابتدائيّة –الصفوف الأوّل – السادس” (2009) ليؤكّد أهميّة تدريس الأدب، فقد ورد فيه أنّه يهدف إلى: “تحبيب وترسيخ عادة المطالعة لدى التلميذ، وجعلها جزءًا من سلوكه اليوميّ، وذلك من خلال قراءة نصوص عربيّة ومترجمة تمثّل الأنواع المختلفة، وتناولها بالتحليل والتفسير في جوانبها المتعدّدة: الاجتماعيّة، الثقافيّة، الوجدانيّة، الفنيّة، الجماليّة” (المنهج، 2009: 13)
ودعا هذا المنهج إلى تفعيل بيئة تعليميّة ناجعة تسهم في تحقيق أهدافه مثل: “توفير مكتبة مدرسيّة ومكتبة صفيّة غنيّة ومتنوّعة، مزوّدة بأجهزة تكنولوجيّة حديثة كالحاسوب، واستثمارها بشكل فعّال” (م. ن:15)
وقد خصّص هذا المنهج الفصل الخامس منه لموضوع المطالعة/القراءة، مفصّلًا الأهداف وكيفية التعامل مع المطالعة، ومعايير أختار الكتب الملائمة للصفوف المختلفة، ومقترحًا أن يقرأ كلّ تلميذ 65 كتابًا على الأقل حتّى نهاية الصفّ السادس. (م. ن: 61 – 66).
يشتمل منهج الأدب العربيّ للمرحلة الإعداديّة في الصفوف السابع – التاسع (1985) على أعمال ونصوص أدبيّة تغطّي معظم الأجناس الأدبيّة من: الحكمة والمثل والحكاية والوصيّة والخطبة والأسطورة والشِّعر والمقالة والقصّة والمسرحيّة والسّيرة واليوميّات والمذكّرات وأدب الرّحلات.
وجاء هذا التمثيل للألوان الأدبية المختلفة كي: “يتعرّف الطلاب على المميّزات والمفاهيم الأدبيّة الخاصّة بكلّ لون“. (المنهج، 1985: 7)
كذلك أدرجنا موضوع المطالعة/القراءة الذاتيّة الموجّهة والحرّة في هذا المنهج، كما فعلنا في منهج اللغة العربيّة في الابتدائيّة، وقد شمل المنهج قائمة كتب للمطالعة راعينا في اختيارها الميول القرائيّة للطلاب في المرحلة الإعداديّة، واقترحنا أن يقرأ كلّ طالب عشرة كتب على الأقلّ في كلّ صفّ. (المنهج المذكور: 26 – 29)
وفي منهج الأدب العربّيّ والعالميّ للثانويّة (الصفوف: العاشر – الثاني عشر) يُطلب من كلّ طالب أن يقرأ ستّة كتب (كتابين على الأقلّ في كلّ سنة) – غير الكتب الإلزاميّة المطلوبة لامتحان البجروت/التوجيهيّ.
كما حرصنا على تزويد المعلّمين بالاقتراحات والتوجيهات التي تجعل التعامل مع موضوع المطالعة/القراءة يتحقّق بصورة مهنيّة ناجعة ومحبّبة. ((كتاب المرشد للمعلّمين، 1987: 58 – 65).
وبالإضافة لتأكيد القراءة الذاتيّة لكتب أدبيّة فقد حرصت مناهج الأدب في هذه المرحلة فوق الابتدائيّة على تمثيل جميع الأجناس/الجانرات الأدبيّة المعروفة،
وأكّدت أهداف تدريس الأدب في هذه المرحلة على إكساب المتعلّمين المتعة في قراءة النصوص الأدبيّة وتحبيبها لهم، وإكسابهم مهارات الفهم والتحليل والنقد ليكونوا قرّاءً مستقلّين يتذوّقون الأدب ويستمتعون بقراءته، وتطوير اهتمامهم بقراءة الأدب الفنيّ باعتباره تجربةً شعوريّة مثرية وممتعة، كذلك تطوير الحساسيّة الجماليّة لديهم وفهم أساليب التعبير الخاصّة ووظائفها في العمل الأدبيّ، باعتباره نصًّا مركّبًا متعدّد الدلالات.
وعلى تدريس الأدب أن يؤكّد التواصل مع العمل الأدبيّ، وإقامة علاقة حواريّة بين النصّ الأدبيّ والقارئ المتعلّم لتتحقّق المتعة الشعوريّة والتفاعل مع النصّ المقروء.
ولتحقيق أهداف تدريس الأدب في هذه المرحلة ينبغي التنويع في طرائق التدريس وفي والوسائل والأنشطة، والتركيز على أن تكون قراءة الأعمال الأدبيّة قراءة مُنتجة مبدعة، لا قراءة تلقينيّة مستهلكة، وهذا يتطلّب توفير جوٍّ من الحريّة والتشجيع على إبداء الانطباعات والآراء الشخصيّة المعلّلة إزاء العمل الأدبيّ وأبعاده المختلفة. كما يتطلّب التركيز على عمليّات التفكير العليا من تحليل وتركيب وتقويم وإبداع، وربط المادّة المدرّسة بخبرات المتعلّمين السابقة، وبالواقع الاجتماعيّ والثقافيّ، وتوظيف ذلك كلِّه في الحياة العمليّة. (محمّد حمود، 1993: 130 – 131))
من طرق التدريس المحبّذة طريقة العمل التعاونيّ، وتأكيد أسلوب النقاش والحوار الدائم في أجواء حميمة مشجّعة بعيدًا عن إصدار الأحكام المُطلقة وعن الإملاءات والشروح الجاهزة، لأنّ النصوص الأدبيّة الجيّدة مفتوحةٌ على قراءات ودلالات متعدّدة!
لتعميق فهم النصوص الأدبيّة وتذوّقها اقترحنا كذلك ربطَ تدريس الأدب بالفنون الجميلة الأخرى كالرسم والموسيقى والغناء والتمثيل والنحت، والاستعانة بوسائل تعليميّة محفّزة، وعدم الاكتفاء بالكتاب المدرسيّ وباللوح وبالطبشورة. من بين تلك الوسائل نذكر: الأفلام، الأشرطة المسجّلة، الأشرطة السمعيّة والبصريّة، الحاسوب، شبكة المعلومات (الانترنت)، الصور واللوحات، التلفزيون والمذياع، المجلّات، المعاجم والموسوعات والمراجع الأخرى.
ومن الأنشطة المساعدة والمحفّزة في تدريس الأدب نذكر:
– الأنشطة الإبداعيّة من تمثيل ورسم وغناء وكتابة إبداعيّة.
– المسابقات الأدبيّة: في المطالعة، الخطابة، التمثيل…
– إصدار المجلات الصفيّة والمدرسيّة.
– إقامة النوادي والحلقات الأدبيّة.
– إقامة المعارض المدرسيّة.
كلمة ختاميّة:
إنّ إكساب الطلّاب عادة القراءة الذاتيّة للأدب يمكن أن تتحقّق بصورة تدريجيّة وبطريقة حلزونيّة، بحيث تتّسع الدائرة وتتعمّق مع التقدّم في مراحل العمر، بدءًا من مرحلة ما قبل المدرسة، واستمرارًا في مرحلة المدرسة الابتدائيّة، تليها المرحلة الإعداديّة والثانويّة.
وقد أثبتت التجارب والأبحاث، أنّ اكتساب عادة القراءة الذاتيّة يسهم بشكل كبير في إثراء عالم القرّاء، وتوسيع آفاقهم، وزيادة تجاربهم، ويؤثّر في بلورة شخصيّاتهم، ويعمّق فهمهم لذواتهم وللآخرين، ويحقّق التوازن النفسيّ والروحيّ، ويعزّز التواصل البنّاء والحوار المتبادل بين القرّاء في أنحاء المعمورة على اختلاف أعراقهم ولغاتهم وثقافاتهم.
ج
المراجع:
للمرحلة الثانويّة في المدارس العربيّة (العاشر – الثاني عشر)، القدس، 2006