قافلة القدسمقالات

انتفاضة الأقصى” فصل من فصول نضال فلسطيني طويل

المؤلف: د. ماهر الشريف

المصدر : الانترنت جوجل

تحل في أواخر شهر أيلول/سبتمبر الجاري الذكرى العشرون لاندلاع الانتفاضة الكبرى التي عُرفت باسم “انتفاضة الأقصى”، ومثّلت فصلاً من فصول نضال طويل، متعدد الأشكال، خاضه الشعب الفلسطيني منذ مطلع القرن العشرين كي يتمتع بحقه في تقرير مصيره على أرض وطنه. وفضلاً عن هذه الانتفاضة، شهدت الأرض الفلسطينية حدثين ثوريين بارزين، تواصلا كذلك على مدى سنوات، وهما: الإضراب العام والثورة المسلحة في فلسطين التاريخية في ثلاثينيات القرن العشرين ضد سلطات الانتداب البريطاني، والانتفاضة الشعبية التي اندلعت في كانون الأول/ديسمبر 1987 في الضفة الغربية وقطاع غزة ضد الاحتلال الإسرائيلي، وعُرفت باسم “انتفاضة الحرية والاستقلال”. وسأحاول فيما يتبع التوقف عند خصائص كل حدث من هذه الأحداث الثورية الثلاثة.
الإضراب العام والثورة المسلحة ضد الاستعمار البريطاني
شهدت فلسطين، في عشرينيات القرن الماضي، عدداً من “الهبات” التي كان يقوم خلالها العرب الفلسطينيون بمهاجمة المستوطنين اليهود، كان من أهمها الهبة الواسعة التي اندلعت في الأسبوع الأخير من آب/أغسطس 1929، وعُرفت بـ “هبة البراق”، نسبة إلى الحائط الغربي للمسجد الأقصى، الذي يعتقد المسلمون أن النبي محمداً ربط عنده “البراق” الذي امتطاه عندما عرج إلى السماء في ليلة الإسراء والمعراج. وكان الباعث الرئيسي لاندلاع تلك الهبة محاولة اليهود انتزاع حقوق في ملكية هذا الحائط الغربي، تتجاوز حقهم في زيارة الموقع الذي يطلقون عليه اسم “حائط المبكى” ويقيمون صلواتهم بقربه. وخلافاً لما سبقها، تميّزت “هبة البراق” بشمولها معظم المدن الرئيسية في فلسطين، وامتدادها إلى العديد من القرى العربية والمستعمرات اليهودية، وسقوط مئات القتلى والجرحى من العرب واليهود خلالها. ولم تفلح السلطات البريطانية في إخمادها سوى بعد لجوئها إلى استخدام طائراتها وسياراتها المصفحة، وإلى الاستعانة بالوحدات العسكرية المتمركزة في القواعد البريطانية خارج فلسطين (1).
عقب “هبة البراق”، صار نضال الشعب الفلسطيني يستهدف الاستعمار البريطاني وأجهزته أكثر مما يستهدف التجمع الاستيطاني اليهودي في فلسطين “الييشوف”، وذلك بعد أن خاب رهان قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية على إمكانية تغيير مواقف بريطانيا إزاء تصريح بلفور ومشروع “الوطن القومي اليهودي”. وكان من مظاهر هذا التحوّل التحركات الثورية التي شهدتها المدن الفلسطينية، وخصوصاً القدس ويافا، في تشرين الأول/أكتوبر 1933، ضد السلطات البريطانية، وذلك احتجاجاً على سكوتها على تسليح المنظمات الصهيونية وسماحها بانتقال الأراضي إلى أيدي اليهود وفتح أبواب الهجرة إلى فلسطين أمامهم. وساهمت تلك التحركات، ومن ثم المظاهرة الحاشدة التي جرت في مدينة حيفا في 21 تشرين الثاني/نوفمبر 1935، لدى تشييع الشيخ عز الدين القسام غداة استشهاده في كمين نصبته وحدة من الجيش البريطاني في أحراش قرية يعبد في منطقة جنين لمجموعة الأنصار المسلحة التي كان يقودها، ساهمت في تمهيد الطريق أمام اندلاع الإضراب العام في 20 نيسان/أبريل 1936 بقرار من لجنة قومية تشكلت في نابلس، إثر انتشار شائعة عن مقتل أربعة عرب بينهم امرأة، في مدينة يافا على يد المستوطنين اليهود. فكان ذلك بداية ثورة 1936-1939.
وتخوفاً من انتقال قيادة حركة الإضراب العام إلى أيدي القيادات المحلية الميدانية، بحيث تصبح الأحزاب العربية عاجزة عن التحكم به، التقى زعماؤها في 25 نيسان/أبريل، وأعلنوا تشكيل “اللجنة العربية العليا” برئاسة مفتي القدس محمد أمين الحسيني، التي دعت إلى مواصلة الإضراب العام إلى أن تستجيب الحكومة البريطانية لمطالب الحركة الوطنية العربية المتمثّلة في: وقف الهجرة اليهودية وقفاً تاماً، ومنع انتقال الأراضي إلى اليهود، وإنشاء حكومة وطنية مسؤولة أمام مجلس نيابي.
وقد اتخذت السلطات البريطانية سلسلة من الإجراءات للقضاء على الثورة، إذ فرضت أنظمة قانون الطوارئ، واستقدمت وحدات عسكرية جديدة من مالطة ومن بريطانيا، وصارت تفرض عقوبات جماعية على سكان المدن والقرى العربية، مثل نسف البيوت وفرض الغرامات، حتى أنها قامت بهدم البلدة القديمة في مدينة يافا التي وجد فيها الثوار الفلسطينيون ملجأ لهم، وألقت القبض على آلاف الثوار العرب، ونفذت أحكام الإعدام في عشرات منهم، ودعمت تشكيل “فرق سلام” مسلحة من الفلسطينيين المعارضين لقيادة محمد أمين الحسيني لمحاربة الثوار الموالين له، وأضفت طابعاً شرعياً على منظمة الهاغانا العسكرية السرية، التي تأسست وسط “الييشوف” في مطلع العشرينيات، وذلك من خلال تجنيد حراس قرويين لحماية المستعمرات اليهودية، فكان ذلك بداية تشكيل فرق حراسة هذه المستعمرات التي حملت اسم “هنوطروت”. كما استنجدت السلطات البريطانية بالملوك والأمراء العرب لوقف الإضراب العام، ولجأت إلى المناورات السياسية وشكّلت لجنة للتحقيق في الاضطرابات، ثم أصدرت في أيار/مايو 1939 “الكتاب الأبيض” لتهدئة العرب (2).
انتفاضة كانون الأول/ديسمبر 1987 في سبيل الحرية والاستقلال
أُطلق اسم “الانتفاضة” لأول مرة على التظاهرات التي شهدتها المناطق الفلسطينية المحتلة خلال شهري شباط/فبراير وآذار/مارس 1969 احتجاجاً على إجراءات سلطات الاحتلال الإسرائيلي القمعية. وقد تميزت تلك التظاهرات بالمشاركة الواسعة للنساء وبلجوء المتظاهرين إلى استخدام الحجارة. كما برز خلالها دور المسجد كمركز لتجميع الناس وتعبئتهم، إذ انطلقت من المسجد الأقصى في مدينة القدس بعد صلاة العيد مسيرة كبرى نظمتها القوى الوطنية والنقابات العمالية والمهنية والهيئات النسائية، شارك فيها أكثر من ثلاثة آلاف شخص، توجهوا إلى أضرحة الشهداء. وقد شكلت تلك الانتفاضة محطة بارزة في نضال سكان المناطق الفلسطينية المحتلة؛ فبفضلها، استعاد هؤلاء السكان ثقتهم بأنفسهم وبقدرتهم على مواجهة الاحتلال بعد نكسة حرب حزيران/يونيو 1967، كما راحت تتعزز وحدة العمل بين القوى الوطنية في الضفة الغربية وفي قطاع غزة.
وبالتوازي مع الكفاح المسلح الذي كان يخاض من خارج المناطق الفلسطينية المحتلة، تواصل نضال سكان هذه المناطق خلال عقدين من الزمن إلى أن تكلل باندلاع الانتفاضة الشعبية الكبرى في التاسع من كانون الأول/ديسمبر 1987، التي كرّست انتقال مركز الثقل في النضال الوطني الفلسطيني من خارج المناطق الفلسطينية المحتلة، حيث تركّز هذا الثقل منذ نشوء حركة المقاومة الفلسطينية المسلحة في منتصف ستينيات القرن العشرين، إلى داخل هذه المناطق، وأحيت الدور السياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية الذي ضعف كثيراً بعد أن فقدت، عقب الاجتياح الإسرائيلي للبنان في صيف 1982، “قاعدتها الآمنة” في هذا البلد وخسرت “ورقة” الكفاح المسلح وأجبرت على إخراج قواتها من بيروت، ودفعت الحكومة الأردنية، في أواخر تموز/يوليو 1988، إلى التخلي عن سيطرتها على الضفة الغربية واتخاذ قرار بفك العلاقة القانونية والإدارية بين الضفتين الشرقية والغربية لنهر الأردن، كما شجعت الدورة التاسعة عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر، في منتصف تشرين الثاني/نوفمبر 1988، على إصدار “إعلان الاستقلال” وتبني “مبادرة السلام”، وخصوصاً بعد أن ركّزت “القيادة الوطنية الموحدة” للانتفاضة على هدفَي الحرية والاستقلال، ورسمت فاعلياتها النضالية حدود الدولة الفلسطينية على أساس “الخط الأخضر” الذي يفصل الأراضي الفلسطينية التي احتلت سنة 1967 عن الأراضي التي قامت عليها إسرائيل سنة 1948 (3).
ولقد تميّزت تلك الانتفاضة بطابعها الشعبي والديمقراطي، إذ شاركت فيها جميع فئات الشعب الفلسطيني الاجتماعية، كما تميّزت بمستوى تنظيمها العالي، وبأساليب نضال غير مسلحة متوافقة مع طبيعة المناطق الفلسطينية المحتلة، نجحت في تحييد جيش الاحتلال الإسرائيلي، وأدت إلى تصاعد المعارضة الإسرائيلية لسياسات الاحتلال، وفرضت على حكام إسرائيل عزلة دولية كبيرة. وكما كتب أحد قادتها، وهو الراحل تيسير عاروري، الذي اعتقلته سلطات الاحتلال أشهراً طويلة ثم أبعدته خارج الضفة الغربية، مرّت تلك الانتفاضة بمرحلتين: المرحلة الأولى، وتمتد منذ اندلاعها وحتى ربيع سنة 1989، وتميّزت بالمشاركة الشعبية الواسعة في فعالياتها المختلفة، وببروز اللجان الشعبية التي غطى نشاطها عشرات ميادين العمل المختلفة، الاقتصادية والصحية والاجتماعية والزراعية والإعلامية والتعليمية، في غالبية مدن وقرى ومخيمات الضفة الغربية وقطاع غزة. وخلال هذه المرحلة، توصلت سلطات الاحتلال إلى قناعة بعدم إمكانية القضاء على الانتفاضة باعتماد الأساليب العسكرية فقط. بينما امتدت المرحلة الثانية من ربيع سنة 1989 وحتى صيف سنة 1990، وتميّزت بتراجع المشاركة الشعبية في فعاليات الانتفاضة، وخصوصاً تلك المرتبطة بالصراع المباشر مع جنود الاحتلال والمستوطنين، كالتظاهرات والصدامات، وبتراجع ملموس أيضاً في نشاط اللجان الشعبية المختلفة. وبرزت في تلك المرحلة مظاهر الصراعات الفئوية ليس فقط بين أطراف منظمة التحرير الفلسطينية وحركة “حماس”، بل كذلك بين أطراف منظمة التحرير نفسها، كما نمت مظاهر “بقرطة” الانتفاضة من خلال تأسيس العشرات إن لم يكن المئات من المؤسسات والهيئات البيروقراطية بأموال دعم الانتفاضة التي تضخ من الخارج. وبالإجمال، أصبحت الانتفاضة إلى حد بعيد تراوح في مكانها (4).
وهكذا، عندما شرع النظام العراقي بغزو الكويت في 2 آب/أغسطس 1990، كانت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية تواجه مأزقاً سياسياً خانقاً. فبينما كانت “مبادرة السلام” الفلسطينية قد وصلت إلى طريق مسدود، وخصوصاً بعد إقدام الإدارة الأمريكية على قطع الحوار الذي كانت قد بدأته مع قيادة منظمة التحرير، بذريعة رفض هذه القيادة إدانة العملية الفدائية التي قام بها أحد فصائل المنظمة، فشلت الانتفاضة في التحوّل إلى حالة من العصيان المدني الشاملة وتحقيق مكاسب سياسية جديدة للقضية الفلسطينية. وفي الوقت نفسه، كانت موجات الهجرة اليهودية الواسعة تتدفق إلى إسرائيل من جمهوريات الاتحاد السوفياتي. أما الواقع الرسمي العربي الذي انقسم على نفسه بعد الغزو العراقي للكويت، فقد كان عاجزاً عن ممارسة أي ضغط جدي على الإدارة الأميركية. وإزاء هذه الظروف الصعبة، التي خيّمت عليها أجواء الإحباط، تبنّت قيادة منظمة التحرير “المبادرة” السياسية التي طرحها الرئيس العراقي صدام حسين، في 12 آب/أغسطس 1990، على قاعدة “الربط” بين جميع النزاعات في الشرق الأوسط، بحيث يبدأ الحل لهذه النزاعات بانسحاب إسرائيل “الفوري وغير المشروط” من الأراضي العربية التي تحتلها في فلسطين وسورية ولبنان (5).
لكن مع انتهاء حرب الخليج بهزيمة الجيش العراقي على يد “التحالف الدولي” وانسحابه من الكويت، فُرض على منظمة التحرير حصار سياسي ومالي عربي ودولي شديد، نتيجة وقوفها إلى جانب العراق، دفعها إلى الموافقة على الشروط الأميركية للمشاركة في المؤتمر الدولي للسلام الذي دعت إليه الإدارة الأميركية، ثم إلى الدخول في مفاوضات سرية مع الحكومة الإسرائيلية، أسفرت، في أيلول/سبتمبر 1993، عن “اتفاق إعلان المبادئ الفلسطيني الإسرائيلي” المعروف باتفاق أوسلو، وتبادل وثائق “الاعتراف المتبادل” بين منظمة التحرير الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية.
“انتفاضة الأقصى” تعبّر عن خيبة الأمل في اتفاقيات السلام
بعد سبعة أعوام على “المصافحة التاريخية” في البيت الأبيض بين ياسر عرفات وإسحاق رابين، تبيّن أن السلطة الفلسطينية لم تسيطر على أكثر من خمس مساحة الضفة الغربية وعلى ثلثي مساحة قطاع غزة تقريباً، وبأن الانسحاب من 22 في المئة من أرض فلسطين التاريخية -أي مساحة الضفة الغربية وقطاع غزة- يخضع، في نظر حكام إسرائيل، للتفاوض وليس للتنفيذ، كما هو الحال بالنسبة لبنود قرار مجلس الأمن رقم 242، الذي يدعو إسرائيل إلى الانسحاب من الأراضي العربية التي احتلتها في حزيران/يونيو 1967. وفضلاً عن ذلك، تواصلت عمليات مصادرة الأراضي وبناء المستوطنات وتوسيعها وتهويد القدس، وازداد عدد الفلسطينيين الذين يعانون من الفقر والبطالة عما كانوا عليه. فكان من الطبيعي أن تندلع الانتفاضة في أواخر أيلول/سبتمبر 2000، خصوصاً بعد فشل مفاوضات كامب ديفيد في تموز/يوليو 2000، بين ياسر عرفات وايهود باراك، في التوصل إلى حلول لقضايا الوضع النهائي.
لقد كانت الانتفاضة الثانية، التي أشعلها قيام زعيم حزب “الليكود” آنذاك أريئيل شارون بدخول ساحة المسجد الأقصى، تعبيراً “عن تراكم ضيق الجمهور الفلسطيني إلى أن بلغ ذروة الانفجار، وقناعته بأن التفاوض من دون ممارسة الضغط لن يجدي نفعاً”. ومنذ أسابيعها الأولى، نشأ جدل بين القوى الفلسطينية المنخرطة فيها حول الاحتفاظ بطابعها الشعبي أو توجيهها نحو النشاطات المسلحة، وبين حصرها داخل حدود الأراضي المحتلة سنة 1967 أو مدها إلى مناطق 48 داخل “الخط الأخضر”، وخصوصاً عقب انتقال المواجهات إلى داخل هذا الخط واستشهاد 13 فلسطينياً في البلدات العربية في إسرائيل. كما نشأ جدل حول طبيعة أهداف الانتفاضة السياسية، إذ انقسمت القوى الفلسطينية إلى سلطة وطنية، وجدت في الانتفاضة وسيلة لتحسين شروط التفاوض، وقوى وطنية علمانية، رأت فيها وسيلة لتحقيق هدف الاستقلال، وقوى دينية، وجدت فيها طريقاً إلى طرح خطها السياسي القائم على تحرير كامل التراب الوطني الفلسطيني (6).
وسريعاً، راحت الانتفاضة تتجّه نحو عسكرة فعالياتها، وخصوصاً من خلال ظاهرة العمليات “التفجيرية”، أو “الاستشهادية”، وهي الظاهرة التي جاءت أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة الأمريكية لتعطيها أبعاداً خطيرة. فقبل 11 أيلول/سبتمبر، كانت سياسة إدارة الرئيس جورج بوش الابن، التي لم تهتم بإعادة الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي إلى سكة الحوار، تتمثّل في دعم حكومة أريئيل شارون ومطالبته بعدم الإفراط في الرد على الفلسطينيين، واحتواء المواجهة الدائرة فوق الأرض الفلسطينية بحيث لا تؤثر سلباً في السياسة الأميركية في المنطقة، وخصوصاً إزاء العراق. وقد استنتج أريئيل شارون فوراً، بعد 11 أيلول/سبتمبر، أن الوضع الجديد يتيح له الادعاء أنه يقف في الخطوط الأمامية لـ “الحرب على الإرهاب”، معزّزاً التفاهم السياسي بين اليمين المحافظ الأميركي واليمين القومي الإسرائيلي (7).
وقد أثار طغيان الطابع العسكري على هذه الانتفاضة جدلاً واسعاً في الأوساط الفلسطينية. وقام بعض الباحثين الفلسطينيين بالمقارنة بين الانتفاضة الأولى، التي تميّزت بطابعها السلمي والشعبي، وبين الانتفاضة الثانية، فرأت الأستاذة في جامعة بير زيت، إصلاح جاد، أن الانتفاضة الثانية عانت من غياب المشاركة الجماهيرية، التي اقتصرت على أشكال رمزية كالمشاركة في جنازات الشهداء، وذلك نتيجة ضعف الأحزاب والتنظيمات السياسية التي كانت تحتضن منظمات العمل الجماهيري وانتقال عدد من كوادر هذه الأحزاب للعمل في المنظمات غير الحكومية، الأمر الذي أدّى إلى “تراجع كبير في خطاب وثقافة التيار الوطني الديمقراطي العلماني”، وسمح للحركات السياسية الدينية “بكسب شرعية إضافية وتنظيم نسبة مهمة من الجمهور”، وذلك عن طريق السيطرة بالانتخابات على عدة مجالس طلابية أو نقابات مهنية، وكذلك عن طريق التصدي للاحتلال بالعمل العسكري، واللجوء “إلى العمليات التفجيرية الاستشهادية”، التي صارت تشارك فيها قوى من حركة “فتح” (8)، وخصوصاً بعد لجوء قوات الاحتلال، في إطار إجراءاتها القمعية، إلى سياسة الاغتيالات المباشرة، التي أسفرت عن استشهاد قادة كبار من جميع القوى الوطنية والإسلامية، كان من أبرزهم أبو علي مصطفى، والشيخ أحمد ياسين والدكتور عبد العزيز الرنتيسي.
ومنذ سنة 2002، صارت إدارة الرئيس جورج بوش الابن، التي اتهمت رئيس السلطة الفلسطينية بتشجيع “الإرهاب”، تركّز على مطلب الإصلاح بوصفه وسيلة لإقصاء ياسر عرفات عن قيادة السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير، بينما رأت حكومة شارون في هذا المطلب مدخلاً إلى إضعاف السلطة الفلسطينية برمتها، خصوصاً بعد أن قامت قواتها باجتياح المدن الفلسطينية التي خضعت لسيطرة السلطة الفلسطينية، وفرضت على رئيسها الحصار في مقره في مدينة رام الله. وبعد رحيل ياسر عرفات في 11 تشرين الثاني/نوفمبر 2004 في ظروف غامضة، برزت أفكار تعتبر أن زمن “الشرعية التاريخية” قد انتهى، وتعالت الدعوات إلى اعتماد الانتخابات كمصدر رئيسي للشرعية السياسية. وجرت الانتخابات الرئاسية بالفعل في 9 كانون الثاني/يناير 2005، وحصل فيها مرشح حركة “فتح”، محمود عباس، على نحو 63 في المئة من الأصوات. وفي برنامجه الانتخابي، أكد الرئيس الجديد الحاجة إلى إصلاح النظام السياسي على أساس تفعيل دور المؤسسات، وإطلاق العملية الديمقراطية، ودعا إلى وقف عسكرة الانتفاضة وإعادة إحياء المفاوضات، باعتبار ذلك هو “الطريق الوحيد” للتوصل إلى حل سياسي يضمن حقوق الشعب الفلسطيني ويساهم في تغيير صورته في نظر الرأي العام الدولي، ويوفر الدعم المادي له، ونجح، في شباط/فبراير من ذلك العام، في التوصل إلى “هدنة” مع إسرائيل في قمة شرم الشيخ (10). وبذلك، فقدت الانتفاضة الأساس الموضوعي الذي يسمح لها بالاستمرار، وراحت جذوتها تنطفئ شيئاً فشيئاً.
هل الشروط مهيأة لاندلاع انتفاضة ثالثة؟
يدور الحديث كثيراً هذه الأيام، في الأوساط الفلسطينية، عن ضرورة الإعداد لانتفاضة شعبية ثالثة، “تقلب الطاولة”، كما يقال، في وجه إدارة دونالد ترامب وحكومة بنيامين نتنياهو والحكام العرب السائرين على طريق تطبيع علاقاتهم مع إسرائيل؛ فهل الشروط مهيأة لاندلاع مثل هذه الانتفاضة؟.
في دراسة نشرها معهد “كارنغي لسلام الشرق”، في 8 شباط/فبراير 2018، حول احتمالات اندلاع انتفاضة ثالثة، أعدها الباحث في المعهد مايكل يونغ، واستندت إلى رؤية كبار باحثي المعهد، خلصت الدراسة إلى أن انغلاق آفاق ونافذة الحل “على أساس حل الدولتين وفق المعايير الدولية”، وحالة الإحباط المتفشية بين الفلسطينيين، وتفاقم الأوضاع المعيشية والإنسانية، ترجح احتمال انفجار انتفاضة ثالثة، وإن كان من المحتمل أن تتخذ أشكالاً تختلف عن الانتفاضة الشعبية سنة 1987 أو “انتفاضة الأقصى” التي اتخذت طابعاً مسلحاً. وبحسب علي الجرباوي، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بير زيت وأحد المشاركين في هذه الدراسة، فإنه “من المستبعد أن يتكرّر حدوث انتفاضة شعبية كتلك التي اندلعت سنة 1987، فقد تبدّلت الظروف تماماً جرّاء اتفاق أوسلو وقيام السلطة الفلسطينية، وبفعل ذلك فقد أصبح الاحتلال مخفيّاً وغير مرئي بدرجة كبيرة بالنسبة للفلسطينيين المحصورين داخل مناطق سكنهم في ما أصبح يُعرف بالمنطقتَين (أ) و (ب)، وهذا أدّى لأن لا يكون هناك احتكاك يومي مباشر بينهم وبين قوات الاحتلال، إلا عند الحواجز المنتشرة على مداخل هذه المناطق السكنية، وعلى شبكة الطرقات الرئيسة”. ويضيف الجرباوي أنه “لا توجد إمكانية لاندلاع انتفاضة بأي شكل من الأشكال، إن لم تكن شريحة كبيرة من الفلسطينيين على قناعة بجدواها الإيجابية”، وأن الانتفاضة القادمة قد تكون “على هيئة احتجاجات شعبية سلمية واسعة ومستمرة في مراكز المدن الفلسطينية، تطالب بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي المديد، على أمل أن يجذب ذلك انتباه وتدخّل المجتمع الدولي” (11).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق