أحببت رجل الأمن منذ طفولتي المبكرة يوم وقعت عيناي على صورة لأبي معلقة على جدار غرفة الضيوف وبجانبها سيف جدي الطويل الموشى غمده بحبات كبيرة ملونة من الخرز ..لم يكن في الصورة هيئة ابي كما عرفته مغطى رأسه بالكوفية والعقال بل كان مرتديا زي رجل البوليس في عهد الانتداب البريطاني وكلما قدم ضيف إلى بيتنا ودخل غرفة الضيوف اول ما تلفت نظره صورة ابي وسيف جدي عندها أري السعادة وقد علت على وجه ابي العريض وقد رفع يده إليه وأخذ باصابعه يفتل شاربه الأسود الكث شعورا منه بالزهو على سنوات عديدة مضت ..تحصلت على شهادة التوجيهي أي الثانوية العامة في عام 64 من القرن الماضي وكان طموحي أن أصبح رجل أمن كما كنت أرى ابي في الصورة وحينما أخبرته بذلك ابتسم ابتسامة عريضة قليلا ما كنت اراها فقد كان ضنك الحياة المعيشية سائدا بين الناس في تلك الفترة مما جعل الوجوه غالبا ما تكون مقطبة ومكفهرة وهكذا كان حال ابي الذي كان يعمل حارسا في الليل لإحدى المنشآت الحكومية يخرج عصرا اليها ومعه سلاحه وطعامه ويعود صباح اليوم التالي ليجد فراش غرفة الضيوف في انتظاره فيستلقي تحت صورته المعلقة التي يحبها وتحت سيف أبيه الطويل الذي يزين الجدار ويعطي للمكان هيبة .. قال ابي وبقايا الابتسامة ما زالت مرسومة على شفته السفلي حيث الشفة العليا قد غطاها شاربه الأسود الكث : اسمع يا ولدي أريدك ضابطا في جيش الشقيري وليس مثل كامل (الجبالي ) ؛؛
..وكان يقصد ابي بجيش الشقيري جيش التحرير الفلسطيني الذي تشكل في عهد السيد أحمد الشقيري اول رئيس لمنظمة التحرير الفلسطينية اما كامل (الجبالي) فهو رجل الشرطة القوي المعروف الذي ذاع صيته في غزة لما كان له من حزم ومقدرة هو وفرقته من رجال الشرطة على حفظ النظام في أيام فترة الإدارة المصرية ..طيلة ثلاثين سنة متواصلة في الغربة وصورة ابي بزي رجل البوليس ايام الانتداب البريطاني تطل امام بصري من حين لآخر فتعيدني إلى أعوام ذلك الزمن الجميل حيث بيتنا الكبير المليء باصص الورد والزهور وغرفة الضيوف الواسعة التي يغطي ارضيتها بساط أحمر مخطط وفوقه فراش وثير وصورة ابي الكبيرة باطارها الخشبي اللامع المعلقة على الجدار وبجانبها سيف جدي بغمده الأسود المزين بحبات من الخرز وفرن التنور وحديث الناس عن حزم كامل (الجبالي ) وقدرته على حفظ النظام التي تتجلى في ملعب اليرموك بمناسبة احتفالات 7 مارس ولقبه الحقيقي هو البدوي وليس الجبالي الذي عرف به نسبة إلى بلدته جباليا ..كل هذه الأشياء كانت تطل من حين لآخر من الذاكرة التي تختزن أشياء كثيرة حتى عدت إلى ارض الوطن في عام 97 لالتحق في أحد الأجهزة الأمنية للسلطة الوطنية الفلسطينية كضابط في جهاز التوجيه السياسي وقد أتيح لي ذات يوم حيث كنت واقفا أمام باب مقر مخابرات المطينة بمنطقة الزرقه التابعة إداريا لحي التفاح والقريبة جدا من بلدة جباليا ..أتيح لي أن أرى كامل الجبالي نفسه وقد أضحى رجلا ضعيف القوى هرما بفعل تقدم السن لكن رغم ذلك فقد علت إمارات الحزم على ملامح وجهه فبدت واضحة على شفتيه المزمومتين وعينيه البراقتين وهكذا أكون قد حققت بالفعل في تلك المرحلة من حياتي ما كنت أطمح فيه ايام أن تحصلت على شهادة التوجيهي الثانوية العامة عام 64 من القرن الماضي بأن أكون ضابطا في الوطن وما كان أبي رحمه الله يرغب به دائما .. …