الرئيسية
دلال مقارى باوش: أفتح تجاربى للآخر لنتقاسم معا رغيف المعارف
دلال مقارى باوش فنانة تشكيلية وناقدة مسرحية وسينمائية صاحبة ممارسات واهتمامات ثقافية متعددة وهى من أصول جزائرية، فلسطينية، سورية، تخصصت فى نوع من العلاج يجمع بين الدراما وعلم النفس وهو «السيكودراما» و«الدراما ثيرابي»، بالإضافة إلى اهتمامها بالتنمية البشرية عن طريق الفنون من خلال إنشائها لمشروع ومبادرة عالمية باسم «معهد دراما بلا حدود».. وهى تتنقل باستمرار مابين عدة دول أوروبية وعربية ناشرة لثقافة التعاون والتكافل، كما عملت كمتطوعة فى منظمات إنسانية عدة كاليونسيف والأونروا وغيرهما.
حول رؤيتها وخبراتها الثقافية المتنوعة كان حوارنا معها.
■ فى البداية أنت من أصول جزائرية، فلسطينية، سورية، حدثينا عن تلك النشأة وارتباطها بمكونك الفكرى والثقافي؟
للعودة إلى البدايات، إغراء الترحال والسفر، إغراء الذاكرة أن تعيد لضم الحكاية منذ الخيط الأول، والصورة الأولى، والرعشة الأولى، أعود إلى أجدادى الجزائريين الذين هاجروا مع الأمير عبد القادر الجزائرى إلى بلاد الشام، وأحيك ومعهم محطات الحكاية بين الجزائر ودمشق وفلسطين، وأتزود من هذه المرحلة بذاكرة المكان، بالأصوات وتراتيل السفر، بروائح سكنت روحى قبل ذاكرة الأنف، بهذا الزخم من ثقافة الحكاية المرتحلة بين البلاد والشعوب، أعود إلى جدى المتصوف، وأشعاره الفلسفية، إلى جدتى الراوية والقاصة بشغف، إلى عناق تراتيل الكنائس مع أصوات المؤذنين فى دمشق القديمة، حيث اتكأ قلبى الصغير مرهفا على أسوار البوابات السبع لمدينة تحتفى بالضيف وتعصر له أزهار البرتقال ترحيبا بين يديه.
وكأن الترحال قدر الحكاية، حكايتى التى تكتب تفاصيلها مجددا على أسوار غربة جديدة بين هولندا وألمانيا، إلى رحيل جديد ينتظرنى مستقبلا، هذا التنوع والتلاقح الثقافى هو ما غذى منابع الإلهام والتوجهات الفكرية التى أحملها.
■ وكيف كانت بدايتك فى الالتحام بعوالم الثقافة والفنون؟
من ينابيع الترحال والغربة، من الحكايا والأصوات التى امتزجت فى ذاكرتي، كانت البداية، عالم من الكلمات، والمسرح، والألوان، بحثا عن ممر جديد لأقول الحكاية، وصوت جديد لأقولني، متنقلة بين الفنون والمقامات، بحثا عن نهاوند الروح، وحجاز الحكاية، وتراتيل تمردت على الألوان لتحتفى بالأبيض والأسود، لون الظلال التى بدأت مسيرتى بها فعليا.
كانت لجدتى «الللا فطيمة» صندوق خشبى كبير، تنقل معها من ترحال إلى آخر، سألتها يوما أن تفتحه، لأرى مابداخله، فتحت لى الصندوق، وجلست تتأملنى بصمت، وأنا أعبث فى صندوق ذاكرتها، دهشت لأنها بداخل الصندوق احتفظت بصناديق صغيرة، سألتها بفضول، لماذا تحتفظين بهذه الصناديق ماذا بداخلها؟، أجابت بهدوء وهى تشيح نظرها بعيدا، هذه حياتى وذكرياتى جمعتها فى صناديق، كى أحفظها من النسيان!، فتحت الصناديق المغلقة، وأشرعت النافذة على هواء دمشقى محمل برائحة الياسمين، ووعدت جدتي، أن أحفظ تجاربى فى صناديق (مفتوحة) للشمس والريح، لفضوليين مثلى يتعلمون من نبش الذاكرة والتجارب.
درست بقسم اللغة العربية بكلية الآداب، لأدرك ينابيع الكلام واعجن رغيفى من المفردات، أطهوه على فحم تجارب الأولين، وأتقاسمه مع عابرى الطريق، على رصيف تحنطت فيه المعانى!
صغيرة أدهشنى المسرح وأغراني، أن ألهو بين الظل والنور، لكن دراستى الأكاديمية فيه تأخرت حتى أرضيت شغفى باللغة والتراث، فى دراستى للمسرح فتحت صندوق جديد لتجاربي، بين الإخراج وكتابة النص والتمثيل، مجددا أدهشنى خيال الظل، وراهنت بعناد ان أجمعه بصغيرته السينما، التى نضجت فى رحم خيال الظل وتمردت عنه لتعيش عالمها الخاص، دون أن تنتبه إلى أنها لم تتخلص بعد من حبل السرة!.
■ تنقلت مبكرا مابين عدة دول أوروبية، وظل اهتمامك فى تقديم أنشطتك منصبا على الدول العربية خاصة، ما المشكلات التى تواجهك؟
تكوينى الأكاديمى الحالى كان نتاج بحثى المتواصل فى أوروبا، لكن اهتمامى بعودة هذه الخبرة إلى المنابع والجذور فى بلادى العربية، كان ولايزال الرغبة والالتزام بقضايا وطنى العربى الكبير، وهذا من وجهة نظرى واجب على كل مغترب مؤمن بانتمائه أن يعود لخدمة الوطن، على الأقل بمشاريعه التنموية.
أعتقد أننى لا أواجه مشاكل تذكر، لأن من يؤمن بالتضحيات النبيلة لن تستوقفه عقبات صغيرة تواجه كل مواطن عربى يوميا.
■ حدثينا عن تخصصك فى «السيكودراما» و«الدراما ثيرابي»، رغم حداثة عهد الدول العربية بمثل تلك الأساليب؟
دعنى أقول أننا نعرف وعرفنا عربيا المادة الخام لـ«السيكودراما» و«الدراما ثيرابى»، فالأم والمعلم والمربي، يستخدمون أدواتهم (الفنية والدرامية منها) لتعديل سلوك الفرد وإعادة تأهيله وإدماجه! والعرب فى إشراقة الأندلس عرفوا أقدم تقنيات «الثيرابي» بالموسيقى، انتقلت إلى مدينة «فاس» لاحقا، حيث تتواجد أول وأقدم مشفى للعلاج بالموسيقى والتأهيل النفسي، إذن أومن وأدرك أننا عرفنا ونعرف هذه التقنيات من قبل! ولكن ضمن مسمى آخر أكثر بساطة وعفوية، لكن الأهداف واحدة (معالجة وتأهيل الفرد وإعادة إدماجه فى المجتمع).
خلال بداياتى الأولى للعمل التطوعى مع مؤسسات عالمية (اليونسيف والأونروا) تعلمت الأبجدية الأولى لهذه التقنيات المعاصرة، وبدأت أبحث عن إمكانيات تطوير هذه الخبرة، عبر انخراطى فى ورشات فى الوطن العربى وأوروبا، وصولا إلى ماجستير فى السيكودراما والمسرح، ومجموعة من الديبلومات التى حفزتنى على تجويد خط خاص جدا لعملى وهويتى ضمن هذا الفضاء، وصولا إلى إيجاد منهجى وأدواتى المتفردة التى أعمل بها والتى جعلتنى أحصل على جوائز عديدة من ضمنها جائزة الدولة فى ألمانيا، لعملى على مشروع توثيق ذاكرة المهاجرين عبر تقنية السايكودراما والدراما ثيرابي.
■ كيف تخصصت فى مجال تنمية الموارد البشرية.. ودعم الحركات التطوعية فى البلدان العربية ولماذا؟
ذكرت أننى ابنة لمؤسسات إنسانية وتطوعية عالمية، (اليونسيف والأونروا وأيضا كاريتاس) وكلاجئة فلسطينية فى سوريا، تعرفت على تفاصيل تشكيل وآلية عمل هذه المؤسسات، ومن هنا بدأت الرغبة فى التعلم والتطوع والعمل الإنسانى غير المأجور فى مخيمات فلسطينية فى سوريا ولبنان، فمن متطوعة، أصبحت مدربة أنقل خبراتى التى تعلمتها كتجربة يومية وكخبرة أكاديمية فى الوطن العربى وأوروبا إيمانا منى بضرورة العمل على تنمية الفرد، والمجتمع لمواجهة التحديات على كل الأصعدة، ورغبة بأن يكون التغيير نتاجا فعليا وحراكا داخليا شخصيا، قبل أن يكون بمحرضات خارجية، لأننى أؤمن بالذات، وقوتها على صناعة التغيير، عندما تعى وتدرك نقاء المنابع.
إذا لم أتوقف عند صناديقى تلك، بل بدأت البحث عن خبرة جديدة، وعالم جديد، أفردته فى صندوق جديد وفتحته على تجارب عربية وعالمية كثيرة (السايكودراما والدراما ثيرابي) (التنمية البشرية عن طريق الفنون) والعمل التطوعى لخدمة الإنسان والوطن، وعاهدت نفسى على أن أفتح تجاربى للآخر لنتقاسم معا رغيف المعارف.
■ أنت فنانة تشكيلية وناقدة مسرحية وسينمائية وعلاوة على ممارسات واهتمامات ثقافية متعددة، أيها الأقرب إلى قلبك وكيف السبيل إلى التوفيق فيما بينها؟
حقيقة أنا لا أجيد تصنيف نفسى الآن، دعنى أقول بأننى مجربة، اختبر معارفى فى مختبر الحياة، لا انوى الوصول إلى شيء، كل ما أبحث عنه الآن هو متعة التجربة، وليس نتائجها، متعة الطريق، وليس الهدف، فأنا رحالة بين المعارف والفنون، لا يشد مرساتى ميناء، ولاتحتوينى صفات أكاديمية، لأنى تواقة دائما إلى الجديد بشغف، ورغبة، وعناد.
أتشرد بين الأشكال الفنية وفضاءات البوح الإبداعى، لأتذوق ممتعة وشغف فنى جديد كل هذه التجارب تشكل أدواتي.
■ صدرت لك مجموعتان شعريتان بعنوان «صوت مسام» و«حدقة دمشقية».. حدثينا عنهما؟
لم يكن هذا إنتاجى الأول! بدأت الكتابة مبكرا، الشعر، وبعدها جربت القصة القصيرة، والنقد الأدبي، وصولا إلى النصوص المسرحية وسيناريو للأفلام القصيرة، ورطة ممتعة أن أتشرد بين الأجناس الأدبية، ورطة ممتعة ألا استطيع التملص من الأنا الشعرية، فى بعض الجرائد والمجلات المحلية فى سوريا، كتبت قصصا للأطفال وأسست مجلة الكفاح الطليعي، ومجلة الأزهار كملحقين للأطفال فى مجلتى الشبيبة، والكفاح، ثمانى صفحات شهريا لكل ملحق بين قصص ورسومات وإخراج تشهد لها حقبة من الفوران الإبداعى أثناء إقامتى المؤقتة فى مخيم اليرموك فى دمشق، بعدها انخرطت فى مجموعة باحثة لتوثيق ذاكرة الوطن، فى قصص للأطفال وكتبت عن القرى الفلسطينية المدمرة، المنشورة فى دار الشجرة للناشر الشهيد غسان الشهابي، ولم استطع التملص من الشعر، حيث أصدرت ديوانين (صوت مسام وحدقة دمشقية) «صوت مسام» هو تجربتى مع الغربة والرحيل، تأتى عبر ثلاثة أصوات: صوتها وصوته وتراتيل، أما «حدقة دمشقية» فهو وجعى المكتوب عن المأساة السورية فى هذه الآونة! إلى جانب النصوص المسرحية للكبار والأطفال وقصص الأطفال المنشورة فى الصحف والمجلات وبعض المواقع الإلكترونية، برغم عزفى على أوتار أدبية مختلفة لكن الشعر بقى عالمى الأقرب الذى يكتبنى واكتبه كل لحظة لأنه وحده صوت مسامى!.
■ قمت بتأسيس «معهد دراما بلا حدود الدولي» حدثينا عن فكرته وأهدافه؟
هومشروع ومبادرة عالمية للتنمية البشرية عن طريق الفنون، بدأ من فكرة عملت عليها منذ عام 2003 برعاية رابطة (فاو ها إس) الألمانية، وكانت تحمل مسمى ورشة المختبر المسرحي، التى كانت تهدف إلى تأهيل الفرد عبر المسرح، ودفعه ليكون منفتحا، إيجابى التفكير، منشغلا بقضايا إنسانية وإبداعية، وعبر جولات عديدة فى الوطن العربى وتجارب ناجحة بدأت تتبلور فكرة إنشاء المعهد، وشمولية أهدافه التى تنحو باتجاه تنمية الفرد وإعداده من خلال الفنون، وقد عملنا على مئات الورشات وآلاف المتدربين، من فئات متعددة (المشردين المعنفين الأيتام قضايا المرأة الفنانين والمسرحيين المهاجرين) فقد شملت ورشاتنا كل الفئات لتقديم العون والإرشاد والتأهيل، فضلا عن تقديم منح دراسية مجانية للمتفوقين فى ورشاتنا، وإنشاء جمعيات برعاية المعهد فى بعض الدول العربية لمتابعة العمل الميدانى مع احتياجات كل مجتمع، والآن لدينا فروع وأعضاء وجمعيات فى معظم الدول العربية وبعض الدول الأوروبية.
■ كيف ترين حال الفكر والثقافة العربية وما هو دور المثقفين تجاهها؟
من المؤكد أن هناك مشهد ثقافى له طابعه الخاص فى بلادنا العربية، وأن لدينا مفكرين ومبدعين، لايمكننى نكران ذلك، لكن دورهم أحيانا مغيب أمام الفعل السياسى، والأنظمة المستبدة، كما أننا نشهد الأعمال الفردية من جانب، ومن جانب آخر ابتعاد المثقف عن الفعل والتأثير الحيوى ضمن النسيج المجتمعى (هناك سيطرة مفهوم النخبة) لذلك يبقى أثر الفكر والإبداع أسير الحلقات المغلقة، بدل أن ينتشر فى أزقة مجتمعاتنا وشوارعها وأرواح أبنائها.
والشارع العربى متعطش تماما لدور الفكر والفن والثقافة، وما أحوجنا الآن لهذه الخطوة.
■ تم تكريمك من مؤسسة سيدة الأرض لجهودك فى دعم وخدمة القضية الفلسطينية، حدثينا عن ذلك؟
من خلال مؤسسة عربية فلسطينية وعالمية، لاختيار شخصية العام من العالم العربى والعالم الغربي، تم اختيارى كمغتربة عربية فى ألمانيا لنيل لقب سيدة الأرض، أو شخصية العام، وكان هذا التكريم مفاجأة كبيرة لى، لأيمانى بأنى سيدة الظلال، لكن التكريم أكد لى أن هناك من يتابع إنتاجى وإشغالاتي، فى ترحالي، ويحاول أن ينفض عنى غبار الطريق. والآن أنا عضوة فى مجلس أمناء مؤسسة سيدة الأرض، لتقديم خدماتى التطوعية أيضا من خلال هذه المؤسسة لأبنائنا فى فلسطين المحتلة والشتات.
■ ما أهم مشكلات المثقفين العرب فى المهجر؟ وكيف يمكن ربطهم بالحركات الثقافية فى البلدان العربية وزيادة الأواصر والتعاون بينهم؟
معظم المثقفين المهاجرين، انخرطوا وأنتجوا فى مجتمعاتهم الجديدة، ولاقوا ترحابا لإنتاجهم المختلف من مسرحيين وفنانين تشكيليين وشعراء إلى آخر القائمة، لكن الوطن أحيانا يتجاهلهم، فسقطت أسماؤهم «سهوا» او إهمالا من الفعاليات الثقافية فى بلادهم، وإن هم لم يبادروا بفتح الأبواب المغلقة فلن يكون هناك مبادرات إلا نادرة لاستدعائهم إلى أنشطة الوطن، لتقديم خبرة (تلاقح بين الثقافات).
جميعنا يطمح أن يعود إلى الوطن الذى يسكننا، لذلك نحتاج إلى تشكيل جمعيات وروابط للمغتربين المبدعين، تحرص على التواصل الدائم مع الوطن.
■ ما جديدك؟
فى الأفق القريب جدا ورشات تطوعية، فى الوطن العربى لمحاربة ظاهرة الإدمان، وتأهيل مرشدين محترفين لمتابعة هذه الظاهرة والحد ما أمكن منها.
وتقديم خدمات مختلفة لدول النزاعات والحروب، بهدف نشر قيم التسامح والحوار بين الأديان والثقافات المختلفة، وهو المشروع الذى أكرم من خلاله هذه الأيام من قبل الكنيسة البروتستانتية فى ألمانيا، والذى يجعلنى ضمن أهم الشخصيات المدنية التى أثرت فى المجتمع الألمانى عام 2017، حيث يمثل تكريمى دعما لمبادرة ترشيحى لجائزة نوبل للسلام التى أطلقت فى ابريل الماضى فى قصر المؤتمرات فى تونس من قبل مؤسسات مدنية عربية، حيث تبنت المؤسسات الألمانية هذه المبادرة وبدأت بالعمل عليها.
المصدر : روز اليوسف
حوار – أحمد سميح