مقالات
الانصهار الثقافي والاندماج،بقلم عبد الحفيظ اغباريه
الانصهار الثقافي و الاندماج ،
كثيرا ما تتجاذب وتتنافر الاراء، وتصل أحيانا الى حد التصادم والتعارض وربما القطيعة والافتراق في محاور عديدة من حياتنا الاجتماعية ، وتلعب المستويات الثقافية للبشر عاملا أساسيا في جعل التجاذب والتقارب أساسا للبيئة الاجتماعية الحاضنة، على أن منطق الأمور يقول بان التعددية الثقافية في المجتمع تشكل في غالب الأحيان كنزا لا يستهان به، في سمو ورفعة وارتقاء وبناء المجتمعات العصرية ، لما لذلك من اثر
في خلق صيغة وبيئة وبنية اجتماعية متقاربة، تتنافس فيها وتنصهر في ان معا ,عديدالثقافات والعادات لتبني مستقبلا جامعا وموحد
وعلى الرغم من ان التعددية الثقافية، كنز حقيقي للبناء الاجتماعي والنهوض الاقتصادي ( كحال الولايات المتحدة ) ، الا انها وفي الوقت ذاته، سلاح ذو حدين ان اسأنا استخدامها وتوجيها في الطريق الصحيح ( كحال بلاد المشرق مثلا ). فاما ان تكون عاملا حافزا للتميز والاستقرار والتقدم ، او ان تكون عاملا مدمرا ومحبطا وهادما لوحدة المجتمع وتماسكه ، ومن الجدير بالذكر ان النفخ في الجوانب الاثنية والطائفية يخلق اسبابا حقيقية تقود الى ما لا يحمد عقباه ، و تؤسس لشرخ عمودي في البناء الاجتماعي مهددة بذلك وحدة الدول بحدودها الجغرافية وتركيبتها الاجتماعية.
تحرص الدول جميعا، على ان يكون العقد الاجتماعي لمكوناتها ( الدستور ) توافقيا، بحيث تقبل وتقر به كافة الاثنيات والاعراق المتعايشة في البلد المعني ، وتتميز الدساتير في البلدان المتقدمة عما هو الحال في بلدان العالم الثالث ، حيث يتضمن الدستور في الدول المتقدمة نصوصا واضحة وغير ( ملغومة ) للحقوق الفردية للاشخاص المتواجدين فيها ، ويتجاوز ذلك الى نصوص واضحة وصريحة عن حقوق الانسان بشكل عام سواء كان مقيما في تلك البلدان ام لم يكن ، كما انها تسمح ضمن تشريعاتها وتتيح الحق لاي كان سواء مواطنا ام من بلد اخر، للجوء الى محاكمها لرفع ظلم او ضير لحق به في بلده او في بلد اخر..
وعلى الرغم من ان النصوص الدستورية في البلدان المتقدمة ، تحارب وبنصوص واضحة النزعات الفاشية والنازية والعرقية، وتتعامل مع الجميع من مواطنين وغير مواطنين بمنظور التساوي وتكافؤ الفرص، الا اننا نلحظ وبشكل متسارع ومتتواتر تنامي الظواهر العنصرية والفاشية في تلك البلدان، ووصول القوى التي تمثلها الى مقاعد البرلمانات هناك ، فهل يعني ذلك ان الدساتير التي كتبت في اعتى الديمقراطيات العالمية ، ما هي الا حبر على ورق؟ او انه لا توجد جهة قضائية تحرص على تطبيق الدستور وحمايته هناك !.
قطعا فالدساتير في العالم المتحضر لها قدسيتها، ولا يمكن لاي جهة مهما كانت ان تقفز عليها او تلتف حولها ، محاولة بذلك اسقاط رغبات ونزعات ذاتية ، وهي اي الجهات الحريصة على قدسية الدستور انما تقوم بذلك لمعرفتها بان المساس به سيشكل كارثة اجتماعية لا يمكن الوقوف عن حدود معينة لها ، حيث ان مخالفة الدستور، ما هي الا تحقير للمجتمع وتقزيم لسيادة القانون ، واطلاق منفلت العقال للفوضى وشريعة الغاب.
ورغم أن الدستور في الدول الحديثة والعصرية، قد كفل حقوق الجميع ومساواتهم ببعض ، فاننا نلمس ان هناك تجمعات بشرية في دولة معنية تشعر بانها تصنف على انها مواطنين من الدرجة الثانية، وهي تجمعات منبوذة بشكل او بأخر وغير مرغوب بها في البلد المعني، ويتنامى لديها الأحساس بانها محاربة وملاحقة في الكثير من الاحيان، وينتابها القلق على مستقبلها في تلك البلدان
نتيجة ذلك الاحساس غير الصحيح ، تجد ان تلك التجمعات تتقوقع على ذاتها، وتفصل نفسها عن الواقع المحيط بها وتحاول خلق واقعا خاصا بها في مجتمعات مدنية وحضارية، تعيش الانفتاح والتسامح وقبول الاخر ، وترحب بالكفاءات الراغبة في النهوض بمستقبل البلد، حيث لا يمكن لاي كان ، فردا ام جماعة ان يكون مؤثرا في واقعه الاجتماعي ، بمعزل عن تواصله مع الاطراف المحيطة به.,
من الصعوبة بمكان ، ان تكون هناك فرص لنجاح اية فكرة ، بمعزل عن التشخيص الحقيقي والواقعي لهذه الفكرة ، وما ينطبق على اية ظاهرة اجتماعية في هذا الجانب ، فانه بكل تأكيد يتماشى مع طريقة التفكير في موضوع الاندماج في المجتمعات الجديدة. فعملية الاندماج لا يمكن لها ان تنجح دون الوقوف على معيقات هذه العملية سواء كان منها الموضوعي ام الذاتي ، وهي ليست بالضرورة قوالب جاهزة او معادلات حسابية محددة ، حيث يدخل فيها الموروث الاجتماعي والذي غالبا ما يتصادم مع الافكار المجتمعية الجديدة ، ويشكل عاملا مفرملا للمضي قدما الى الامام في هذا الجانب..
لم تنطلق هذه الشعوب ( الدول الغربية ) الى الامام ، الا بعد ان وجدت ان فصل الدين عن الدولة هو الحل السحري لاطلاق طاقات البشر ، وهي بهذا المعنى فصلت تماما ما بين القيم المجتمعية الجديدة وتلك التي تفرضها القوانين الكنسية التي لا تقبل الجدل والتجديد ، والتي ترى في مخالفتها ثورة على القيم العليا التي انزلت من السماء ، والحقيقة هنا ان هذه الشعوب تحررت من قيود لا حدود لها، عندما حجمت الكنيسة وابعدتها عن التدخل في الشأن العام ، وحاربت كل اشكال سلطة الكهنوت التي كانت طاغية ومغيبة للوعي الاجتماعي في ذلك الحين
في مجتمعاتنا لا زال الدين يلعب دورا اساسيا ليس فقط في التشريع، بل في كل جوانب حياتنا الفردية بالعموم ، وهو عاملا حاسما حتى في كتابة الدساتير التي تحكم طبيعة العلاقة الناظمة ، وكيفية التواصل بين الفئات الاجتماعية في المجتمع ، وما زال هو الناظم للاحكام والمراسيم التي تصدر عن سلطتنا ، وهو الامر الذي يتيح لاي كان ومهما كان مستواه العلمي متدنيا لان يطلق احكامه على الاخرين وفقا لاهوائه ووفقا لفهمه للقضايا الدينية، حيث يمكن لشخص ما ان يكفر ويقتل باسم الدين وتجد من يدعمه في ذلك بل من يبارك له عمله ويحاول جاهدا تبرير ذلك العمل. فالحياة التي حرم الله المساس بها، واعطاها من القداسة والقدسية ما اعطى منه اماكن العبادة، تجد انها محط اجتهاد لدى العديدين بمجرد انه قرأ شيئا من التعاليم الدينية ليس اكثر..
لقد اتاح فصل الدين عن الدولة ، واشاعة الاجواء العلمانية والحرة ، كما هائلا من الحرية الفردية للشعوب الغربية، التي يصعب علينا حصرها، بل وايضا مهمها وهضمها ، بدأ من حقه في طريقة النوم التي يختارها وصولا الى حقه في الذهاب الى القصر الملكي او الجمهوري وشتم الرمز الاول في الدولة المعنية. على ان هذه الحقوق لا يملك منها الشرقي شيئا ، وهو لم يجرؤ على مجرد التفكير بها في واقعه الاجتماعي القديم ، ووجد نفسه فجأة
وبدون مقدمات ممتلكا لتلك الحقوق ، وهنا بكل تأكيد ستجد انه عاش التناقض والصراع مع ذاته ، قبل ان يصطدم مع الاخرين
خلقت الثورة التقنية المعلوماتية، ومن قبلها الثورة الصناعية مفاهيم جديدة في المجتمعات الغربية، ومنها على سبيل المثال لا الحصر ، العلاقات الأسرية ، حيث أصبح من المعتاد ونتيجة تسارع عجلة النمو الاقتصادي في البلد المعني، ان تجد الاب او الام منخرطين في الحياة العملية وتقوم المدارس ورياض الاطفال بدور الام والاب في تربية الاطفال ، وكذلك تجد ان اقامة الاب عند سن التقاعد او الام في بيوت المسنين التي ترعاها الدول ما هو الا امر طبيعي يعود في الاساس الى النمط في العلاقات الاجتماعية التي خلقتها الثورة الصناعية ، وهو امر اكثر من مفهوم في قيم الدول الغربية ، إلا انه في ثقافتنا امر مرفوض بكل تفاصيله ، ووققا لاعرافنا فانه يلامس حدود قلة الادب وعدم الوفاء والبر بالوالوالدين ! وهناك ايضا ندرة وقلة التواصل الاجتماعي وانقطاعها في احيان كثير بين الجيران والمقيمين في نفس البناء, امر عادي جدا لا يمكن الوقوف والتوقف امامه, بسبب تعدد الانشغالات والاعمال التي يمارسها افراد الاسر، على ان قيمنا ترفض هذه الامور رفضا مطلقا، وتعتبر أن تماسك وترابط الاسرة هو سر بقاء المجتمعات ، وان ما يجري في الغرب ما هو الا تعبير عن شكل من اشكال الكفر والفجور ، وفي الوقت نفسه يرفضون الاعتراف بان الغرب قد تم الفصل فيه ما بين الدين والدولة، واوجد قيما اجتماعية جديدة غير موجودة في مجتمعات اخرى ، ما زالت تنظر بهالة كبيرة الى الاعراف وترتضيها على حساب مصالحها واحيانا كرامتها .
من الامور التي يجب ان نتعمق فيها اكثر ، تلك الحريات التي انتزعتها المرأة في المجتمعات الغربية ،والثمن الذي دفعته المرأة لتصبح على قدم المساواة مع الرجل ويكون لها دورا مهما ومماثلا للرجل في عملية البناء المجتمعي وفي النهوض الاقتصادي للبلدان الغربية ، وهو الامر الذي لا تقبله مجتمعاتنا وتعتبر انه مسا من الجنون ، وانتقاصا من كرامة الرجل في مجتمعاتنا الذكورية التي تنظر للمرأة على انها كيان غير مستقل، وانها تابعة تماما للرجل ويحظر عليها التفكير وابداء الرأي ، او اتخاذ اي قرار مهما كان صغيرا يؤثر في الحياة الاسرية ،على الرغم من انها تشكل النصف الاخر من المجتمع ..
لكل ما ذكر نجد ان هناك العديد من العقبات التي تحول دون فهم الوافدين الجدد للحريات الفردية والعامة ، ويتجلى ذلك عند بلوغ الابناء لسن الثامنة عشر و سن الرشد ، حيث يتيح القانون لهم العيش مستقلين عن الاهل ، وكذلك يعطيهم الحق في تقرير مصير من دون ان يكون هناك حقا للاهل في التدخل بشؤونهم او تقرير مستقبلهم ،وهو ما ينطبق على حالة الذكور والاناث على حد سواء , الامر الذي يخلق انفاعالات وردات فعل تصل الى حد ارتكاب الجرائم بحق الابناء في حال الخروج عن مشورة الوالدين ، والغريب في الامر ان من يقوم بتنفيذ الجريمة هم من نفس الجيل ، حيث تجد ان دوافع الشرف على الرغم من اختلاف المفاهيم فيها بين مجتمعين مختلفين ما زالت ضمن قوالبها الثابتة في عقلية الشرقيين، فالحرية المطلقة بكل ما تعني هي حق مقدس لكل فرد يتواجد في المجتمعات الغربية ، وهي مهمة المجتمع في الدفاع عنها ،ويكون طرفي الصراع فيها الاهل وهم الاقرب الى الشاب او الشابة , وبين المجتمع الذي يرى عكس ذلك، انه يتم جره الى مستنقعات التخلف والارتداد عن القيم الحضارية وفقا لتصوراته.
يلعب العامل الثقافي والمعرفي للوافد الجديد دورا كبيرا في تقبل المفاهيم الجديدة والقيم المجتمعية القائمة ، ومن الصعوبة بمكان ان تجد الفئات الغير متعلمة والتي لا تمتلك ثقافة التواصل الاجتماعي ،قادرة على فهم وهضم ما يجري حولها ، وهي بالمناسبة الفئة الاكبر والاعم، الامر الذي ينعكس سلبا على عموم الوافدين والقادمين الجدد ، وهو ما يعزز من فرص التقليل من نجاح عملية التواصل والاندماج ، فكلما كان المستوى الثقافي عاليا كلما ساهم وقلل من الفروق والاختلافات في القيم المجتمعية ،بل بالعكس كلما ساهم في طرح مفاهيمة وتقاليده الجميلة والعريقة وجعلها اكثر قبولا وروج لها بالشكل الصحيح.
من الاشكاليات الحقيقة ، التي تزيد من التقوقع والانعزال على الذات , ما يتعارف عليه في مجتمعاتنا بالاعراف ، حيث انها تغلب كثيرا حتى على القيم والمفاهيم الدينية ، وهذه الاعراف تنمو في بيئة يزيد فيها حجم الفقر والجهل والتخلف ، وهي بالاساس منبوذة وغير مقبولة في مجتمعاتنا، فما بالك ان يتم نقلها والحفاظ عليها في المجتمعات الغربية ، هذه الاعراف والمفاهيم جعلت من حالة النفور عاملا اساسيا في التعاطي مع المحيط الجديد ، فالحديث بصوت عالي مثلا هو جزء من ثقافتنا، لكنه مكروه جدا هنا ، وهو وفقا للكثيرين يعبر عن عقد نقص لدى المتحدث، وهناك من يعتبره تعبيرا عن عدم الاحترام لخصوصيات الاخرين، الا اننا وبالرغم من اقرارنا على انه ليس بالسلوك الحضاري، فاننا في الوقت نفسه مصرين على التشبث به . ولا بد ايضا من تفصيل اخر في هذا الجانب, فالدول الغربية عندما وصلت الى تضمين دساتيرها وقونينها ما يتعلق بحقوق الحيوان ، فذلك لانها قد غطت كل الجوانب المتعلقة بالانسان وحقوقة ، ووجدت ان هناك التزامات بالحيوانات يجب ان تقرها وترسمها في قوانينها ، ويمكن ان تكون هذه الامور من المبالغات من وجهة نظرنا ، الا انها حقائق فعلية في المفاهيم الغربية ، وعليه تجد ان هناك حساسية مطلقة من ناحيتنا تجاه اقتناء حيوان في البيت ، وبالرغم من اننا غير مجبرين على القيام بذلك ، فاننا في الوقت نفسه غير محقين ولسنا معنيين بالتدخل وبتوجيه ملاحظاتنا الى من يقوم بهذا الشيء ، وعلينا احترام طريقة الاخرين في التفكير وفي تعاطيها مع هذه الامور وعدم جرح احاسيسها بتعابيرنا وهزليتنا التي لا حدود لها.
لا بد من الاقرار بحقيقة ، ان المجتمعات الاوروبية والغربية ، دفعت ثمنا كبيرا وغاليا جدا لتصل إلى ما وصلت اليه في الوقت الحالي ، فهناك الالاف من اسلافهم الذين اقتيدوا الى المقاصل واعواد المشانق من اجل ان ينتزعزا حريتهم ، والملايين الذين قتلوا وحرقوا في اتون المعارك الكبرى من اجل الحفاظ على حياة حرة وكريمة ، وليس صحيحا بالمطلق ان الاوروبيين يعيشون في نعمة, ولا يحسون بتلك الالام التي نعيشها وحالة الخوف والعذاب التي تحياها شعوبنا ، فهذه الشعوب انتزعت حريتها بدماء اجدادها وبقيت حريصة على ان لا تعود الشعوذة الكهنوت لتتحكم بمصائرها، وهي لن تتردد في دفع اثمان أغلى وأكثر عند شعورها ان مصيرها مهدد وان هناك من يحاول جرها الى الخلف. كل ذلك.