نشاطات

بين الشعر المهموس ومناجاة النفس- أ.د. لطفي منصور

قصيدة جديدة للشاعرة ريم فرحات أبو ريّا
القصيدةُ قِصَّةٌ نَسَجَها خيالُ الشاعِرَةِ المُصَوِّرُ لأحداثِها في الزمانِ والمكان. ِ وهو اي الخيالُ الخالقُ لشخصِيَّةٍ غابِرَةٍ في طَيّاتِ الماضي غير القريب. كان لانقطاعها عن الواقع أَثَرٌ في نفسيةِ موجِدِها. وهذا التأثير دفع الشاعرة إلى إجراء حوارٍ داخليّ مع النفس، تصوِّرُ ظهورَ هذه الشخصية غيرَ المتوقَّع بَغتَةً هَزّ مشاعرَها. وانسابت مع تيار الشعور تصف تغيُّرَ الحالة النفسية من يأسٍ إلى أمل، ومن حُزنٍ إلى مرح. واستطاعت ببراعتها أن تُنطقَ ما في محيطِها من غيرِ العقلاء صُوَرَ البهجة بالحضور بعد الغياب في مجاهل الزمن.
الفقرة الاولى:
تعتبر هذه الفقرة مقدِّمة موفقةًً للقصّة تصف مفاجأة الحضور بعد الغياب الموحش.
1- بَيْنَ سِنينٍ عجاف وأُخرى سِمانْ كُنتَ
أنْتْ
٢ – ما بينَ دُخانِ القَدَر وطَلْقَةٍ طائشة جِئتَ
أنتْ
فقرة متعدّدَةُ الجمال والإبداعُ. احتوت التناصّ القرآني بأبهى صُورِه. سنين عجاف قاحلة من الوجد النَّدِيً، وأخرى سِمانٍ مشفوعة بخصبِ الأمَل والحنين إلى الزمانِ الجميل. إنه حُلم فرعون المقتبس من سورة يوسف، وُظِّفَ للآتي المفاجئ (كنت انت). هو الشأْنُ الشاعريُّ موجودٌ بين الخيالِ والواقع، فكأنه يَهْمِسُ في خلايا النفسِ بوجودِه.
يسير تيار الشعورُ بالوجدانِ ليناجي النفسَ( في الشطرِ الثاني) ليلتقيَ بالصدفةِ المذهلة. هكذا قرر القدرُ ان يكونَ اللِّقاءُ صدفةً مفاجِئة بعد انتظار يترنّحُ بينَ اليأسِ والأمل. وظهرَ الفارسُ الجديد.
الفقرة الثانية:
الأحزانُ باتت وَردِيَّةَ اللَّوْنِ
تَرفُلُ كَرمَ عِنَبٍ، وَاغْرورَقَتْ عُيونُ النَّردِ
بالدّمْع
تتصاعَدُ آهاتي عَبْرَ مِعراجِ النورْ
تتنَهَّدُ عروسُ البحرْ
تضحكُ الْغابَةُ من فرحِ الْجَمْرْ
——————–
في هذه الفقرة يبدأُ ما في محيط الشاعرة يهتزُّ فرحًا بالغائبِ الحاضِر. كلٌّ على شاكلتِه ووظيفتِه حسبَ ما يرسمُه لها خيالُ الشاعرة المنتج. وهنا يكون المجازُ اللُّغَوِيُّ سَيِّدَ الموقف.
فالأحزانُ اتَّخَذَتِ اللَّونَ الورديَّ كنايةً عن ذوبانها تحتَ وطأةِ الابتهاج. وهنا نقفُ أمامَ صورَةٍ من الجمالِ التعبيريّ الرائع. وهو التأْنيس. لم تتبخّرُ الأحزانُ فقط، فقد انقلبت إلى أهازيج الفرحِ صوَّرَتْها الشاعرة بأنها غدت ترفلُ في لباسٍ هو كَرمُ عِنَبٍ. وأيّ جمالٍ يضاهي جمال الكرمِ وقد تدلَّت عناقيدُه النورانيّة كثريّاتٍ من ذهب.
الآه إخراجُ الزفيرِ من الصدرِ ملتهبًا من حرارة الحبِِّ أو الحنين او السرورِ الدّافقِ، يشعر الإنسانُ بعدَه بالرّاحة لانزياحِ الهمِّ المقلقِ لأمر يُشغلُ المشاعرَ والفكرَ.
جمال التعبير هنا صعودُه في مِعراجِ النّور. هنا تناصّ قرآني. فالعُروج ذُكِرَ مرّات في القرآن وخاصّةً عروجُ الملائكة بين السماوات العُلى. وإضافة النور ِ إلى العروج أكسبه معنًى يدلُّ على شدّة شوق الشاعرة للحضور. وهو كنايةٌ جميلة لوصف حنايا النفسِ الحارّة لهذا الحدث.
التَّأَوُّه والتنهُّد سلوكٌ لا إرادِيٌّ ينتابُ الإنسانَ في الحالاتَ الصعبةِ المتقلِّبة. وهذا السلوكُ الطارِئ يخفِّفُ عن النفسِ كُربَتَها. أما عروسُ البحرِ تلك الصورةُ الجميلةُ أَبْدَعَها خيالُ الشّاعرَةِ فهو رمزُ للهدوءِ النفسيِّ، وارتياحِ الضمير لطيبِ المشاعرِ بحضورِ الغائبِ المجهولِ الذي أصبح حقيقةً.
الجَمْرُ المعذّبُ بحرارةِ الأشواق انطفأتْ مشاعلُه بالحضورِ نفسِه، فابتهجتِ الغابةُ التي هي مصدرُ حرارتِه.
يا لِدِرايتي بهذا التوظيفِ الفائقِ بينَ المعراجِ والبحرِ والغابةِ والجمرِ وفتنةِ العروسِ، لوصفِ الحالةِ النفسيّة للشاعرةِ لانزياحِ همومِ الغيابِ الذي كان يَقُضُّ مضاجِعَها.

الفقرة الثالثة:
النرجِسُ يحكي للنَّحلِ
قِصَّةَ الرّيحِ أَلْقَتْ بالمحيطِ أَمَلَ الْوَصلِ
وَاعتَنَقَتِ السّماءُ شَظايا الوجْدِ.
وفي عَيْنَيِ الْقَمَرِ ما زالَ يرَقْرِقَُ الشّوْقْ
——————–
يتصاعَدُ الشّوْقُ مْطَّرِدًا معَ الحَدَثِ، وتشاركُ الأشياءُ الشاعِرَةَ
وُجدانها، بعدَ أن وظَّفَتْها لهذهِ الغايةِ، مستعملةً التّأْنيسَ والرمزَ والمجاز والهمسَ.
حكايةُ النرجسِ وما يمثلُه من همسِ العيونِ الساحرةِ للرمزِ المتحرِّكِ – النحلِ -ُ وما يحمله من رحيقِ الحديثِ المعسولِ لقوَّةٍ عاتيةٍ – الريحِ – كلّها حملَتْ رسالةً للوجودِ اللا متناهي – المحيط – فَحْواها أنَّ أملَ الوصلِ باقٍَ مهما طالَ البعدُ واستوحشَ الغيابُ.
وهنا تتخذُ القِصّةُ مَنْحًى آخرَ، فقد تحوَّلَتْ إلى الوَجْدِ، وتمضي صُعُدًا في المقاماتِ والمراتبِ الربّانيّةِ، لأن الوَجْدَ مقامٌ عُلْوِيٌّ في العشْقِِ الإلهي. ويتفرَّقُ الوجدُ بالحضور إلى شظايا تملأُ السّماءَ بالمحبَّةِ والبهجةِ.
أمّا القمرُ وهو رمزُ كلِّ ما هو جميلٌ يقفُ ليشبعَ ناظريه كيفَ تتمثلُ الشخصياتُ أمامَه على مسرحِ الشوق.
لقد بلغتْ شاعرتُنا في سبكِ الكلماتِ ووضعها في سياقِ الحدثِ، لتخلُقَ منها قصّةً عجيبةً تعدُ مفخرةً للأدبِ العربيّ.

الفقرة الرابعة:
حينذاك أَيْنَعَ الْحُلْمُ
وَشَقْشَقَ الصَّمْتُ في الْفَجْرِ.
لعلَّني ألقاكَ عندَ النبْعِ
يُغَرِد لنا بُلْبْلٌ بهمسٍ
وَنَبُثُّ الُهُيامَ غَدَقَا
وتبقى رعشةُ الفؤادِ منقوشةً
فوقَ جبينِ ذلكَ النجمْ
في حِضْنِ السماء فوقْ
وتحكي الغيومُ روايةَ عِشْقْ
كلّما انهمَرَ حُبًّا الْغَيْثْ
——————-
ويمضي الحدَثُ صُعُدا، يغذّيهِ خيالٌ ثَرٌّ رَزقَهُ اللّهُ للشّاعرَةِ الكاتبة. لكنَّ الأمرَ هنا يختلف عن الفِقَرِ السابقةِ. إن الذي يحدّثنا هنا هو العقلُ اللاواعي. فقد استطاعتِ الشاعِرةُ أن تستلَّ منه صُوَرًا تصويريّةً رائعَةَ الجمال.
إن مصدرَ الخيالِ هنا هو الحُلْم،ُ أعني حُلْمَ اليقظةِ الذي أينعَ ونَضِجَ. فأخذ تيارُ الشعور (stream of consciousness) أو الوعيِ يسري رويدًا رويدا.
فالفجرُ قد بانَ بعد أن شقشقَ صَمتُه اي نورُ حقيقةِ الغائبِ، وخُيِّلَ لِقاؤُه عندَ النبعِ رمزِ الحياةِ والوجود.
وهنا تفيضُ صورُ بالحياة:
– بُلبلٌ يهمسُ بالغناءِ فرحًا بالالتقاءِ.
– العِتابُ وبثُّ الهُيامِ غَدَقا – تناصّ قرآني رائعٌ (ماءً غدَقا) غزيرًا دافقا.
– الفؤادانِ يرتعشانِ من ضَنا العتابِ وحَرِّ اللقاءِ ليلا.
لا شاهِدَ الّا ذلكَ النجمُ المصَوِّرُ المضيء مُزيلُ وحشةِ العتمةِ. وكأنَّهُ أيضًا عاشقٌ لأنه نقشَ الصورةَ على جبينه عاليا في عَنانِ السماء. رمزا للطهارة والنقاوة والصفاء.
– أمّا الغيومُ فلها وظيفةٌ أخرى. وظيفةُ الراوي لأجمل قصّةِ عِشقٍ – نسجَها الخيال – . لأنه حُبٌّ طاهِرٌ يَدُرُّ غَيْثًا يستقِرٌّ في الأرض.
وبعد فهذه قصيدةٌ رائعة في الألفاظِ والسبكِ والتصويرِ والإبداعِ تنضمّ إلى رصيدِ الشِّعرِ الرّائعِ لشاعرتِنا الموفقةِ.
تمّت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق