تشكل دراسة مفهوم الزمن مدخلًا هامًّا لفهم العلاقة بين الموسيقى والشعر في مشروع #محمود_درويش الشعري. ذلك من خلال فهم البُعد الشعري في التأليف الموسيقي، بكل تعقيداته المعنوية والبُنيوية، كذلك من خلال فهم العمق الموسيقي في الكتابة الشعرية، بكل مكوناته، وبوصف الموسيقى لغة الزمن بامتياز.
من أكثر طبقات الكتابة إثارة للرصد في مشروع درويش، في كل مراحل تطوره، تكمن في رصد تطور مفهوم الزمن في قصائده، وتأثير مفهومه للزمن على جملته الشعرية من جوانب عديدة، منها الجانب الفني الجمالي غير المنفصل عن الجوانب المعنوية والنفسية، وغير المنفصل عن الجوانب الشكلانية والبُنيوية، إلى جانب المقاربات الفلسفية والسياسة والاجتماعية والفردانية التي تشتبك مع النصوص في غير موقع.
خاطبت قصائد درويش الجماعة، كما خاطبت الفرد، تارةً بحماسة مدوّية وتارة بهمس، وتارة بيقينٍ وتارة بقلق. لكن، من الصعب رصد تطور مفهوم الهُوية، الجمعية (العربية أو الفلسطينية)، أو رصد تطور الهُوية الفردانية في شعره، خارج رصد تطور مفهوم الزمن ومفاعيله.
.
لا وجود للزمن خارج المكان، لكن، والأهم، لا وجود للزمان والمكان خارج حضور الإنسان.
.
“وحيفا من هنا بدأت…” هي جملة زمنيّة بامتياز. تندفع العبارة بزخم “واو الاستئناف” لتجعل من حيفا (المكان/ المدينة الفلسطينية/ المنزل) حركة زمنية تبدأ من “هنا” زمكانيّ. لكن، لا حيفا، ولا سيرورة زمنية للمكان دون الإنسان، ليضيف مباشرةً: “وأحمدُ سُلّم الكرمل”، جملة زمنيّة أخرى تُضاف إلى الأولى على نحوٍ بُنيويّ، لتتأكّد هذه “الحركة” بوصفها بعدًا رابعًا للمكان، وبوصفها حركة صعودٍ وهبوط إنسانيّ على سُلّم هذا المكان، كما تتصرف الموسيقى في صعودها وهبوطها السُّلّميّ لتشكل مسارات اللحن.
يُتابع درويش تشكيل هوية الإنسان (أحمد) عبر رسم حركته في المكان؛ فالمكان، إذ يتحرك، هو سيرورةٌ زمنيّة بالضرورة: “وبسملة الندى” التي لا ترسم لُبنةً جديدة في معمارية الزمن، بل تضيف إليه بعدًا تكراريًّا يجعل من هذا الوجود عودًا أبديًّا، لا في الصوت الصادح في أعالي مآذن الفجر وفي مقام الحجاز (الذي اختاره #مارسيل_خليفة حين وضع موسيقاه العبقرية لهذا النص)، بل كذلك في عَوْدٍ أبديٍّ يضرب عميقًا في التراب مع كل موسمٍ من مواسم “الزّعتر البلديّ”.
موسيقيًّا، إن جاز التعبير، فمن “حيفا/ المنزل” تبدأ القصيدة، من “بيت” السُّلم الموسيقي ودرجة ارتكازه النغمي الأولى، لتنتهي في درجة الارتكاز ذاتها: “والمنزل”.
لا عبارة هنا إلا وتبدأ بـ “واوٍ” استئنافيّة، وكأن النص يتدفّق في حركة تشكّل هُوية أحمد عبر تشكيل علاقته بالمكان.
*
جدارية محمود درويش قطعت مع العلاقة البُنيوية التي حددت علاقة الإنسان بالمكان وشكّلت هُويّته بوصفه حالة انتماءٍ وعوْدٍ أبدي كما رصدناها في “أحمد العربي”، و”تطورت” إلى حالة وجودية قلقة، لا إنتمائيّة، وحيديّة/ اغترابيّة.
“الهُويّة” هنا، تتشكّل على نحو مُغاير، خارج الجماعة/ خارج “أحمد” (العربيّ)، عميقًا في الذات الفردية الواحدة الوحيدة، بكل ما تعيشه من قلقٍ وجوديٍّ وتفكّكٍ وتشظّي واغتراب وضياع. هنا، “الآخر” هو ما يحدّد الهُويّة، هو من “يُسمّيك”؛ الآخر، الأنثويّ، الغائب، الذي لا يتكرر في عوْدٍ أبديٍّ كبسملة الندى والزعتر البلديّ، بل هو آخر يتحرك لولبيًّا نحو مجهول لا-زمنيّ:
“هذا هو اسمك/ قالت امرأةٌ/ وغابت في الممرّ اللّولبيّ”. (الجدارية)
*
لا يمكن أن تبقى علاقة درويش بالزمن على حالها وقد بات محكومًا بشرط الآخر، متشكّلًا من خلاله ومعه وبه. بالتالي، لا يمكن ألا يتأثر مفهوم الهُوية المحكوم بمفاعيل الزمن، ليتحول من حالةٍ حنينيّة تكراريّة ومطمئنة، تبدأ من “المنزل” وتنتهي في “المنزل”، إلى حالة “ضياع” محكومة بالتساؤلات والتشظي الوجودي الأوكسموروني (الإرداف الخلفيّ)، كما أنها لا تأتي من الماضي المتشكّل سلفًا، بل تأتي من “سوف أكون”، من المستقبل، من الرؤية، من “الفلك الأخير”:
” أري السماء هناك في متناولِ الأيدي
ويحملني جناح حمامة بيضاء صوب
طفولة أخرى. ولم أحلمْ بأني
كنت أحلم. كلٌ شيء واقعيٌ. كنْت
أعلم أنني ألْقي بنفسي جانبًا
وأطير. سوف أكون ما سأصير في
الفلك الأخيرِ”.
*
لم يعد هناك أي مركزٍ تونالي في هذه القصيدة. لم يعد هناك “منزل”. لم يعد هناك زمن يتشكّل داخل شرط المكان وحضور الإنسان العَوْديّ المستقرّ والدائم. لم يعد “هنا” وطن، لا في المكان على الأرض، ولا في الزمان/ الشّعور، و”العواطف”.
ما معنى الزمن حين يكون “كلّ شيءٍ أبيض”؟
فراغٌ مُطلق/ كينونةٌ غير كائنة/ وجودٌ يأتي قبل ميعاده خارج الزمن/ لا جماعة لا “هُتاف طيّبين” لا “أنين خاطئين”/ لا حياة “هنا” لا “مكان” لا “أين؟”
*
“وكلٌ شيء أبيض،
البحر المعلٌق فوق سقف غمامةٍ
بيضاء. والٌلاشيء أبيض في
سماء المطْلق البيضاءِ. كنْت، ولم
أكنْ. فأنا وحيد في نواحي هذه
الأبديٌة البيضاء. جئت قبيْل ميعادي
فلم يظْهرْ ملاك واحد ليقول لي:
“ماذا فعلت، هناك، في الدنيا؟”
ولم أسمع هتاف الطيٌبين، ولا
أنين الخاطئين، أنا وحيد في البياض،
أنا وحيد
لاشيء يوجِعني على باب القيامةِ.
لا الزمان ولا العواطف. لا
أحِسٌ بخفٌةِ الأشياء أو ثِقلِ
الهواجس. لم أجد أحدا لأسأل:
أين “أيْني” الآن؟ أين مدينة
الموتى، وأين أنا؟ فلا عدم
هنا في اللا هنا، في اللازمان،
ولا وجود
وكأنني قد متٌ قبل الآن” (الجدارية)
*
في “الأبيض” المُطلق يتلاشى الزمن بوصفه زمنًا خرونولوجيًّا متسلّطًا ومتحكّمًا في حركة التاريخ والإنسان. هنا يصير الزمن ملاذًا ذاتيًا للشاعر بوصفه فردًا منتشرًا في الزمن؛ حيث الماضي والحاضر والمستقبل لا معنى لهم، لهم كلّ معنى، وحيث يصير الزمن بحكم الذاكرة والحلم والضمير: زمنًا نفسيًّا، وزمنًا أخلاقيًّا، وزمنًا يتحرّر فيه الإنسان من سطوة الزمن، بوصفه أداة و”رزنامة” وطقوسًا.
*
[جزء من مقالتي بعنوان “العلاقة بين الشعر والموسيقى: دراسة في مفهوم الزمن وتشكّل الهُوية”، وســـــــــام جبران. الناصرة]
*
Marcel Michel Khalife Marcel Khalife