مقالات

شادِيَه / رياض الصالح

في غياهب الذاكرة أحداث مؤلمة تحاول جاهدة أن تبقى مستترة خلف جدران النسيان .. لا أدري لماذا تعبث النفس دائماً في ملفاتٍ قيدت تحت بند ” سري للغاية ” في محاولة منها لإخفاء مشاهد لا تليق بأرواح تعبت ، و أجساد هرمت ، تكفل الزمن الطويل في معالجة كل حالة طارئة تنتج من استرجاع شيء من تلك الذاكرة ، و ذلك بالقبض على ذلك المشهد و إلقاءه في زنزانة النسيان دون محاكمة تذكر ، و دون تقييد حتى للتاريخ و المكان .. فيكفي ما أصاب شادية من أهوال جسيمة، أتلفت ما تبقى في عقلها من أحلام ، و أطفأت كل ما في قلبها من شغف ..
في مكان مجهول من شوارع الريف الوجداني، و في لحظة عابرة في زمان قصتها ، كانت تجلس مستظلة بشجرة جوز على جانب مزرعة أحد المجهولين، حتى اقتربت من سياج تلك المزرعة مهرة ناصعة البياض، و كأنها تعرف شادية منذ سنين طويلة، و جاءت لحظتها لتلقي السلام، أو تسأل عن الحال ..
قفزت شادية من مكانها منبهرة مشدوهة لهذا المخلوق الجميل، و الذي قذف في قلبها إحساساً شبه يقيني بأن روح تلك المهرة تشبه روحها في شيء ما، أو أنها نسخة مكررة من روح واحدة تشترك معها في تمثيل شخصية عاشت منذ فترة بعيدة تحمل نفس المواصفات النفسية و الطبائع الروحية، و تناسخت عبر السنين لتلتقي مع شبيهتها في لحظة مدبرة تحت إشراف عناية كونية لتحقيق مأرب ما ..
قبل دقائق قليلة، كانت شادية تحمل هموم الدنيا على عاتقها، و تجلس حزينة متسمرة تحت تلك الشجرة، و يكاد عقلها المكتظ بالأحداث ينفجر مما هو فيه من ارتباك مزعج، و تبعثر يفوق القدرة على ترتيب اللازم أو حل تلك المشاكل الطارئة ..
فلم يكن في بالها أصلاً أي اهتمام بحل أية مشكلة، أو حتى تصنيف أي حدث يحصل حالياً بهيئة المشكلة، فهي تعيش الآن بعقلية لامبالاة عظيمة، و ثورة ضخمة على الواقع، تتكفل بقلب الطاولة و تشتيت تسلسل كل شيء، ليختلط على الإدراك فهم ما يحصل، فيلغيه من الذاكرة بالكلية، لكنه يحتفظ بملحقاته النفسية من هم أو كدر أو أحزان ..
لكن ظهور هذا المخلوق الرائع، عكس تلك المشاعر المكتئبة، و حولها بنفس القدر إلى اتجاه معاكس نحو سعادة قلما شعرت بها شادية، تناسب مقاس ذلك الدماغ المنهك، و تليق بالأجواء الاحتفالية التي تعقدها روحها نكاية بالمآتم الموجعة على مدار عمرٍ بكامله..
كانت المهرة تتقافز من ناحية لأخرى، تمارس حرية انطلاقها بخطوات ممتدة متزنة، رافعة رأسها للأمام، سعيدة بذلك الهواء الذي يتخلل شعر رقبتها الطويل الناصع البياض، بلا قيود و لا موانع و لا حدود، لولا تلك السياج التي تفهّمت شادية غرض وجودها، فهي مجرد إشارة انتماء لمملكتها الآمنة، وحدود حرمها المانع من تعدي الآخرين عليها..
تربعت شادية تحت تلك الشجرة، و على ملامحها تجاعيد الزمن، و عيناها زهرتان ذابلتان، يتدلى على رأسها خرقتها البيضاء ، تتسربل بثوبها الفلسطيني المطرز بألوان الحياة في بلادها .. لكن أغلب قماشه سواد ..يستر ذلك الجسم النحيل المحمل بأمراض شتى..
جلست تراقب المهرة ساعات طوال بتوقيت من يحيطها من البشر، لكنها كانت مجرد دقائق معدودة فقط بتوقيت لحظات السعادة التي يحب البشر إحصاءها، ثمّ يقسمون أيمانهم المغلظة بالتنكر لوجودها كلما مروا بظرف موجع، بقيت هنالك حتى غربت الشمس، و حل الظلام، و عادت المهرة إلى مقصورتها، لكن روحها الحرة لا زالت تطوف في خيال شادية، تثير البسمة في ثغرها، و تنشر الهدوء في أعماقها، و تعيد إلى ذاكرتها بعضا من بقايا الأحلام العظيمة، و التي كانت غائبة قبل حضورها صدفةً لهذا المكان ..

# بقلم
# رياض الصالح

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق