ثقافه وفكر حر
أَدَبٌ وَبَلاغَةٌ:
أ. د. لطفي منصور
مِنْ فُنُونِ الْبَدِيعِ الَّتِي أُحِبُّ التَّمَتُّعَ بِقِراءَتِها لَوْنٌ يُسَمَّى الطِّباقَ. وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِنا: طَابَقَتِ النّاقَةُ، وَهِي أَنْ تَضَعَ خُفَّ رِجْلِها عَلَى خُفِّ يَدِها تَمامًا في السَّيْرِ. وَهُوَ في الْبَلاغَةِ الجَمْعُ بَيْنَ الشَّيْءِ وَضِدِّهِ في الْكَلامِ. وَهُوَ نَوْعانِ : طِباقُ الْإيجابِ وَطِباقُ السَّلْبِ.
– طِباقُ الْإيجابِ وَهُوَ ما لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ الضِّدانِ إيجابًا وَسَلْبًا. كَقَوْلِ دِعْبِلٍ الْخُزاعِيِّ
مِنَ الْكامِلِ :
– لا تَعْجَبِي يا سَلْمُ مِنْ رَجُلٍ
ضَحِكَ الْمَشِيبُ بِرَأْسِهِ فَبَكَى
ضَحِكَ وَبَكَى ضِدّانِ إيجابِيّان أَيْ غَيْرُ مَنْفِيَّيْنِ (سَلْبِيَّيْنِ) . وَسَلْمُ تَرْخِيمُ سَلْمَى. وانْظُرُوا الِاسْتِعارَةَ الْمَكْنِيَّةَ الْجَمِيلَةَ في جُمْلَةِ “ضَحِكَ الْمَشِيبُ”.
– طِباقُ السَّلْبِ أَوِ النَّفْيِ: هُوَ ما اخْتَلَفَ الضِّدّانِ إيجابًا وَسَلْبًا كَقَوْلِ السَّمَوْءَلِ بنِ عادِياءَ: مِنَ الطَّويل
– وَنُنْكِرُ إنْ شِئْنا عَلَى النّاسِ قَوْلَهُمْ
وَلا يُنْكِرُونَ الْقَوْلَ حِينَ نَقُولُ
الطِّباقُ نُنْكِرُ لا يُنْكِرُونَ كَلامٌ فِيهِ ضِدّانِ سَلْبِيّانِ بِسَبَبِ النَّفْيِ.
وَقالَ السَّمَوْءَلُ نَفْسُهُ: مِنَ الطِّباقُ الْمُوجَبِ:
– سَلِي إنْ جَهِلْتِ النّاسَ عَنّا وَعَنْهُمُ
وَلَيْسَ سَواءً عَالِمٌ وَجَهُولُ
وَوَقَعَ في القُرْآنِ مِنَ النَّوْعَيْنِ الشُّيْءُ الْكَثِيرُ، مِثْلُ قَوْلِهِ تَعالَى مِنَ الْإيجابِ: “تَحْسَبُهُمْ أَيْقاظًا وَهُمْ رُقُودٌ”.
وَقَوْلُهُ مِنَ السَّلْبِ:
“قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ والَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ”.
وَمِنَ الشِّعْرِ الْجَمِيلِ في النَّوْعِ الْأَوَّلِ قَوْلُ أبِي صَخْرٍ الْهُذَلِيِّ: مِنَ الطَّويل
– أَمّا وَالَّذِي أَبْكَى وَأَضْحَكَ وَالَّذِي
أَماتَ وَأَحْيا وَالَّذِي أَمْرُهُ الْأَمْرُ
– لَقَدْ تَرَكَتْنِي أَحْسُدُ الْوَحْشَ أَنْ أَرَى
أَلِيفَيْنِ مِنْها لا يَرُوعُهُما الذُّعْرُ
يُقْسِمُ الشَّاعِرُ بِاللَّهِ الَّذِي يُمِيتُ وَيُحْيِي، وَالَّذِي إنْ قالَ لُلشَّيْءِ كُنْ فَيَكُونَ، أَنَّ هَذِهِ الْحَبِيبَةَ الَّتِي لا تَأْلَفُنِي، جَعَلَتْنِي أَحْسُدُ ما تَآلَفَ مِنَ الْوُحُوشِ، حَتَّى أَنَّها لا تَفْزَعُ مِنْ شَيْءٍ يُخيفُها لِقُوَّةِ الْمَحَبَّةِ بَيْنَها.
طِباقُ الْإيجابِ في الْبَيْتِ الْأَوَّلِ . أمّا الثَّانِي فَهُوَ جَوابُ الْقَسمِ.
وَوَقَعَ في حَماسَةِ أبي تَمّامٍ كَثِيرٌ مِنَ الْأَبْياتِ الشِّعْرِيَّةِ الَّتِي طابَقَ بِها الشُّعَراءُ، اِخْتَرْتُ مِنْها هذا الْبَيْتَ الٍحَماسِيَّ: مِنَ الطَّوِيل
– تَأَخَّرْتُ أَسْتَبْقِي الْحَياةَ فَلَمْ أَجِدٌ
لِنَفْسِي حَياةً مِثْلَ أَنْ أَتَقَدَّما
طابَقَ الشّاعِرُ بَيْنَ تَأَخَّرَ وَتَقَدَّمَ، وَهَذا يُذَكِّرُنِي بِوَصِيَّةِ أَبِي بَكْرٍ لِخالِدِ بنِ الْوَلِيدِ عِنْدَما انْتَدَبَهُ لِحَرْبِ الْمُرْتَدِّينَ قالَ لَهُ: “اِحْرِصْ عَلَى الْمَوْتِ تُوهَبْ لَكَ الْحَياةُ”.
وَوَقَعَتْ في يَدِيِ قِطْعَةٌ شِعْرِيَّةٌ لِلشّاعِرِ الْعَبّاسِيِّ أَبِي الشِّيصِ وهُوَ مُحَمَّدُ بنُ عَلِيٍّ الْخُزاعِيُّ (ت ١٩٦ هج) ابْنُ عَمِّ دِعْبِلٍ الْخُزاعِيِّ الْهَجّاءِ. والشِّيصُ لَقَبٌ غَلَبَ عَلَيْهِ، وَهِيَ النَّخْلَةُ الَّتِي لا يُوجَدُ في ثَمَرِها نَوًى، وَهُوَ مِنْ أَرْدَإ أَنْواعِ التَّمْرِ.
الْقِطْعَةُ تَذْكُرُ وَفاةَ الْخَلِيفَةِ هارونَ الرَّشيدِ في طُوس، وَمُبايَعَةَ ابْنِهِ الْأَمِينِ بِالْخِلافَةِ، وَقَدْ طابَقَ في كُلِّ بَيْتٍ فِيها: مِنَ الْمُنْسَرِحِ
– جَرَتْ جَوارٍ بِالسَّعْدِ وَالنَّحْسِ
فَنَحْنُ في وَحْشَةٍ وَفي أُنْسِ
(الْجَوارِي: السُّفُنِ أَوِ الْكَواكِبُ السَّيّارَةِ)
– الْعَيْنُ تَبْكِي وَالسِّنُّ ضاحِكَةٌ
فَنَحْنُ في مَأْتَمٍ وَفي عُرْسِ
– يُضْحِكُنا الْقائِمُ الْأَمِينُ وَتُبْ
كِينا وَفاةُ الْإمامِ بُالْأَمْسِ
– بَدْرانِ بَدْرٌ أَضْحَى بِبَغْدادَ في
الْخُلْدِ وَبَدْرٌ بِطُوسَ في الرَّمْسِ
اُنْظُرُوا إلَى الْبَدِيعِ وَمِنْهُ الطِّباقِ ما أَجْمَلَهُ!!
السَّعْدُ وَالنَّحْسُ؛ الْوَحْشَةُ وَالْأُنْسُ؛ تَبْكِي وَضاحِكَةٌ؛ الْمَأْتَمُ وَالْعُرْسُ؛ يُضْحِكُنا … وَيُبْكِينا … ؛ ما يَجْرِي بِبَغْدادَ وَما يَجْرِي بِطُوس.
دِقَّةُ وَصْفٍ عَجِيبَةٌ، أَرْضَى الْعَبّاسِيِّينَ في الْحالَتَيْنِ.