مقالات
زكريا بطرس.. الكنيسة تتبرأ منه فينتقم بتأجيج الاحتقان الطائفي
قس مصري مطرود إلى الولايات المتحدة يثير الفتنة في القاهرة.
منذ حوالي عقدين كانت منصات التواصل الاجتماعي أقرب إلى غرف دردشة، مثل المنتديات العامة أو الخاصة، والمجموعات البريدية المختلفة مثل “ياهو”، إضافة إلى تطبيق “بال توك”، ووقتها كان هناك دعاة من رجال الدين المسلمين والمسيحيين ينتشرون بكثافة على هذه المنصات في بداية عهدها بصورتها التقليدية، ويتصارعون في معارك كلامية ليثبت كل منهما أن عقيدته هي الأفضل.
برز اسم أحد القساوسة المسيحيين وقتها ويُدعى زكريا بطرس، وكان يقوم بالهجوم على الدين الإسلامي والطعن في بعض الأحاديث النبوية والآيات القرآنية، وعندما هاجمه أحد الدعاة المسلمين من التيار السلفي برر موقفه بأنه يدافع عن المسيحية ضد محاولات المتشددين تكفير كل من يعتنقونها، وهنا كانت بدايات تطرفه.
لم يتوقف بطرس والذي أثار ضجة في مصر قبل أيام عن تأجيج غضب المسلمين، وافتعال فتنة بين معتنقي الديانتين الإسلامية والمسيحية، فقد تبنى أفكارا متطرفة في ظل صراعاته مع السلفيين، حيث كان نظام الرئيس المصري الأسبق الراحل حسني مبارك لا يضيق الخناق عليهم ويترك لهم مساحة للحركة في الشارع ووسائل الإعلام، ليناكفوا جماعة الإخوان.
وقد تسبب أخيرا في أزمة كادت تتحول إلى مشكلة طائفية بين المسلمين والأقباط على خلفية فيديو انتشر له على منصات التواصل الاجتماعي، وظهر فيه وهو يتطاول على النبي محمد ويشكك في أحاديث نبوية وآيات قرآنية، ويصف الإسلام بأنه ديانة “دموية” يدعو رجالها دائما إلى تكفير المسيحيين وإهدار دمائهم.
مرت الأزمة بسلام، لكن روافدها لا تزال مستمرة، فلم يتوقف عن ترديد نفس النبرة منذ سنوات، حتى عندما كان تحت سلطة الكنيسة المصرية قبل أن تتخذ قرارها عام 2003 بتجريده من الصفة الدينية، وحظر ارتدائه للملابس الدالة عليها، وحرمانه من أيّ منصب كنسي بعد معاقبته على تجاوزاته بحق المسيحية نفسها قبل الإسلام.
بدايات التطرف
قناة “الفادي” التي يعود تأسيسها على يد بطرس إلى العام 2011 تبث برامجها من ولاية كاليفورنيا وتتوجه بها إلى المسيحيين في المنطقة العربية عبر شبكة من الأقمار الآسيوية والأوروبية بشكل ممنهج لاستفزاز المسلمين بالسخرية من عقيدتهم
نشأ بطرس في بيئة كان يعمها التطرف الديني من اتجاهات مختلفة، فقد وُلد في محافظة البحيرة شمال القاهرة، وهي من الأقاليم المعروف عنها احتضان أكبر عدد من الإخوان والسلفيين، وهناك تتعامل العناصر المتشددة مع كل مسيحي بريبة وتحرض على عدم التعامل معه باعتباره “عدوا” للإسلام.
شرب مرارة العنصرية منذ الصغر، لأن المجتمع الريفي الذي نشأ فيه يميل إلى التدين والسير خلف الشيوخ، ووجد الترهيب النفسي والمجتمعي يطارده مبكرا، واقتنع بأن كل مسلم لديه نفس الأفكار المعادية للمسيحية.
لا يعني ذلك أن كل مسيحيي ومسلمي المناطق الريفية من المتطرفين، لكن مسيرة بطرس العلمية والكنسية عكست الخلل الفكري الذي أصابه عكس الكثير من الأقباط المعروف عنهم التسامح والمحبة والتفرقة بين المتشددين ومن يحترمون أصول التعايش والتراحم والتشارك بعيدا عن الانتماء الديني أو التنشئة المجتمعية.
أخفى بطرس تشدده وراء المنصات الاجتماعية، وكان يُحاول بشكل مُستتر أن يهزم المتشددين في معاقلهم، حيث كانوا اعتادوا اللعب على وتر التقارب مع الشباب عبر وسائل الاتصال البدائية وقتها، بشرائط الكاسيت أو غرف الدردشة، وكان يخشى أن يظهر على حقيقته أمام رجال الكنيسة ويتم نسف طموحه في الصعود داخلها.
معارك مؤجلة
حصل على بكالوريوس الآداب من جامعة الإسكندرية في التاريخ، أيّ أنه قارئ جيد للماضي، لكن الأزمة يبدو أنها كانت في الظروف التي صنعت منه متشددا فضّل إخفاء صورته الحقيقية على الجميع ليتبوأ مناصب داخل الكنيسة، ورأى من الأفضل تأجيل معاركه مع المتطرفين والإسلام عموما لمرحلة ما بعد التمكين.
تحقق مراده وتمت رسامته كاهنا بدرجة قس على كنيسة مار جرجس بمحافظة المنوفية وسط دلتا مصر، ورُقي إلى درجة قمص بعد ذلك، ثم تنقل في أكثر من محافظة ليدير شؤون العديد من الكنائس، وبعد اكتشاف منهجه المخالف للكنيسة تم عزله عام 1968، لكنه عاد بعدها بعام واحد عقب إعلانه التوبة والتراجع عن أفكاره.
تم تنصيبه كاهنا لكنيسة مار مرقس في حي مصر الجديدة الراقي بالقاهرة والذي كانت تسكنه وقتها عائلات الطبقة الغنية وعدد كبير من أهم مسؤولي الدولة، ولأنه يتمتع بلباقة الحديث ولديه قدرة كبيرة على الإقناع كانت محاضراته التي يلقيها أسبوعيا محل حضور جماهيري واسع ويأتي إليها مسيحيون من مناطق مختلفة.
محاضراته فضحت منهجه المخالف للعقيدة الكنيسة، حيث تناول بعض الموضوعات الشائكة بطريقة عنيفة، إلى أن تم عزله ثماني سنوات ونصف وحوكم كنسيا، ثم أبدى رغبته في التصالح والتعهد بالتراجع عن منهجه، لكن ظلت المشكلة قائمة، وتعقدت علاقته بالكنيسة حتى نقلته إلى أستراليا لرعاية الجالية المسيحية في مدينة ملبورن.
فترة الاعتقال
المناظرات التي يجريها بطرس على الفضائيات المسيحية مع متشددين إسلاميين أحادية الجانب، بمعنى أنه يطرح السؤال: هل الأقباط كفرة؟ ليجيب على نفسه في حينها ويقول نعم. ويستند إلى تفسيرات لفقهاء مشكوك في صحتها
لم يكن خروجه من مصر وقتها بطلب منه أو كنوع من ترقيته للانتقال إلى أستراليا، بل ارتبط الأمر بأن رائحة تطرفه بدأت تفوح خلال عظاته الكنسية إلى درجة أنه تم اعتقاله عام 1981، ثم تكرر اعتقاله مرة ثانية بعد ثماني سنوات، لأسباب ترتبط بكونه يمثل تهديدا للعلاقة بين المسلمين والأقباط بسبب تطرفه الواضح.
في العام 1989 خرج من المعتقل إلى مطار القاهرة مباشرة ليغادر البلاد، وكانت الكنيسة المصرية وقتها تحاول بشتى الطرق أن تُبعده عن إثارة الاحتقان الطائفي قبل أن تُخفق في إصلاح أفكاره وتقويم سلوكه، وفضلت أن تخفيه عن المشهد المصري برمته وحينها رأت أجهزة أمنية أن وجوده في منصبه سوف يُحدث مشكلات طائفية عديدة.
وقتها تردد بقوة في تقارير إعلامية مصرية لم تنفها الكنيسة أن بعض الأغنياء الأقباط الذين تربطهم علاقات قوية بالكنيسة توسطوا عند البابا الراحل شنودة بابا الأقباط في مصر لعدم شلحه مقابل أن يخرج من مصر بلا رجعة، فتم إرساله إلى أستراليا، لكنه قام بتصرفات تتنافى مع عقيدته، ما دفع الأنبا دانييل أسقف الكنيسة القبطية بسيدني إلى مخاطبة الأنبا بيشوي سكرتير المجمع المقدس بمصر لإبعاد بطرس عن أستراليا، لأنه يقوم بأفعال لا تليق برجل الكهنوت، حتى قرر البابا إرساله إلى الولايات المتحدة، وهناك ارتكب مخالفات كثيرة دفعت الكنيسة إلى شلحه نهائيا.
تكفير من نوع آخر
لجأ إلى تأجير القاعات في بعض الفنادق الأميركية للقاء أتباعه ممن هم على شاكلته، وبدأ يزرع في أذهانهم كراهية المسلمين للديانة المسيحية ومعتنقيها، وهو ما تطرقت إليه أبرشية لوس أنجلس واضطرت لإصدار تحذير إلى جمهوره وكل المنتمين إلى الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، ودعتهم إلى عدم حضور اجتماعاته الدينية لأنها مخالفة لتعاليم الكنيسة وقوانينها.
شعر بطرس أن الكنيسة تطارده من كل الاتجاهات، وتضيق الخناق عليه، فقرر اختراق العقول من بوابة الإنترنت عبر المنصات الاجتماعية، وهنا كانت بدايات شهرته الواسعة ليكون داعية مسيحيا لا يهمه التبشير ونشر المسيحية بقدر ما يهمه محاربة رجال الدين الإسلامي الذين ينصبون العداء لأبناء دينه، وفق قناعاته.
منظمة جويس ماير التبشيرية الأميركية شريكة قناة “الحياة” التي كان يطل منها بطرس تقول إنها أوقفت بث برامجه لأن أسلوبه تسبب في خلق سخط عام من قبل المسلمين والكثير من المسيحيين وأنه “ينطلق من مفهوم خاطئ عن المسيحية نفسها”
أزمته الأبدية أنه مقتنع بأن جميع علماء المسلمين يعتبرون المسيحيين كفرة، ورجال الدين المسيحي رؤوس الكفر، ما دفعه للرد بنفس طريقتهم دفاعا عن عقيدته، هكذا قال في حوارات صحافية أجريت معه عقب شلحه كنسيا، ومشكلته أنه يستمد فهمه لكراهية المسلمين للأقباط من بعض كتب التراث القديمة.
عندما ترك المنصات الاجتماعية وذهب إلى الفضائيات المسيحية الخاصة مثل “الحياة” كان يصر على عقد مناظرات مع متشددين إسلاميين أحادية الجانب، بمعنى أنه يطرح السؤال: هل الأقباط كفرة؟ ليجيب على نفسه في حينها، ويقول نعم. ويستند إلى تفسيرات لفقهاء مشكوك في صحتها، لكنها ما زالت مرجعية لمتطرفين.
ولأنه كاد أن يتسبب للقناة في أزمة كبيرة مع المسلمين لكثرة هجومه عليهم وسخريته من ديانتهم، ومطالبة النخبة المسيحية نفسها بضرورة إسكات صوته بشتى الطرق، وذلك في ذروة التوترات السياسية بمصر إبان ثورة 25 يناير 2011، وصعود المتشددين سلم السياسة والحكم، فتم وقف برنامجه بناء على ضغوط مورست على منظمة جويس ماير التبشيرية الأميركية التي كانت تعمل بالشراكة مع قناة “الحياة” التي كان يطل منها بطرس.
وقالت المنظمة إنها “ستوقف بث برامج بطرس، لأن أسلوبه تسبب في خلق سخط عام من قبل المسلمين والكثير من المسيحيين، وحذر منه بعض الأساقفة، والبابا شنودة أكد أن سلوكه غير مرضٍ ومشكلاته لا تتعلق بالهجوم على الإسلام وحسب، وإنما بمفهومه الخاطئ عن المسيحية نفسها”.
تهييج الأقباط
لم ييأس بطرس وقرر إطلاق قناة “الفادي” عام 2011 من الولايات المتحدة لتبث برامجها من ولاية كاليفورنيا وتتوجه بها إلى المسيحيين في المنطقة العربية عبر شبكة من الأقمار الآسيوية والأوروبية ليستمر في استفزاز المسلمين بالسخرية من عقيدتهم، وتهييج الأقباط من خلال إذاعة نصوص مكتوبة في كتب إسلامية تراثية، ليقوم بعدها بتأسيس قناة على موقع “يوتيوب” تعيد بث ما يقوله في القناة من خلال برنامج “معرفة الحق” الذي تتعرض حلقاته للإسلام باتهامات غير صحيحة.
مثّلت حلقات بطرس بالنسبة إلى المتشددين وعلى رأسهم الإخوان والسلفيون في مصر فرصة ذهبية لإثارة الاحتقان الطائفي بين المسلمين والأقباط، باعتباره كان قسا وكاهنا لكنائس مصرية عديدة، ويتم الإيحاء والتلاعب بعقول البسطاء بأن هذه عينة مصغرة من نظرة قيادات الكنيسة للإسلام، وبهذه الطريقة تم تأجيج واستفزاز البسطاء لتوتير علاقتهم بالأقباط المصريين.
لم يُدرك دعاة الفتنة والطائفية أن الكنيسة الأم وفروعها في الخارج تبرأت من هذا القس بالقول والفعل، ومن بين أسباب شلحه وتجريده من أي مهام دينية كنسية كثرة ادعاءاته على الإسلام، لكن تفكير هؤلاء بهذا المنطق يتقاطع مع مصالحهم في الإصرار على تأجيج العلاقة بين المسلمين والأقباط، ودليل ذلك أن الفيديو الأخير الذي أشعل الجدل في مصر بسبب كلام زكريا بطرس عن الإسلام فيديو قديم، لكنه تناغم مع مآرب المتشددين.
تعكس حالة بطرس شكل التشدد الديني الذي لا يصنعه إلا ميراث يبعث على الكراهية والجمود، حيث يستند في تجريحه للإسلام على ما احتوته بعض كتب التراث من تطرف وتحريض مباشر ضد أصحاب الديانات الأخرى، وما زال الأزهر يرفض التبرؤ منها أو تنقيحها، مع أن كل تراث لا يتجدد أو يتطهر من السموم الفكرية باعث على الكراهية والاحتقان مهما حاولت المؤسسات الدينية تجميل صورته.
المصدر : العرب
أحمد حافظ