عمر الرداد
ما بعد كورونا ليس كما قبلها، ليس في السياسة والاقتصاد والقيم الاجتماعية ،لكنها تغيرات عميقة قادمة،لن تتجاوز السرديات،لا بل ان تلك السرديات ربما تكون النوع الأدبي الذي سيكون ساحتها الأولى في توثيق تداعياتها ،ليس في الأدب العربي وحده، بل في كل سرديات الآداب العالمية،وستظهر تجلياتها في أنواع أدبية مختلفة وخاصة الجديدة منها وربما تذهب لإنتاج أشكال جديدة تستجيب للقنوات الاتصالية التكنولوجية التي تلقفت اللحظة التاريخية لكورونا لتفرض مساحة واحدة قدمت بديلا لإذابة العزلة وجعلت منها ألفة جديدة.
لعل اهم ما أفرزته كورنا في إطار عملية الهدم والبناء والتجريف الذي تمارسه بلا هوادة ولا رحمة حتى اليوم، إعادة إنتاج مفهومي “العدالة والمساواة” اللذين كانا يسبحان في فضاءات علوية، ليصبحا مفهومين واقعيين نسبيا، فقد فرضت كورونا بشمول “كرمها” الأمم والشعوب كافة وعلى السواء، عدالة سواء كانت ظاهرية،ولو على مستوى الصورة وتلقيها، حينما ظهر قادة الدول بما فيها العظمى،ومدراء الشركات العالمية الكبرى وأصحاب رؤوس الأموال والمشردون في بقاع المعمورة موحدين بعنوان جديد وهو “الكمامة” رغم محمولات وسيميائيات الصورة التي جاهدت لتبقي على فوارق ذات مغزى يعلن رفضا مبطنا للمساواة، عبر جودتها ونوعيتها، كما وحدتهم السجون الطوعية، التي لم يدخلوها “لدنية شعواء”.
لقد استدعت الكمامة والسجون الطوعية وهالة الخوف والخلع وغيرها مما فرضته كورونا من سلوكيات ومقاربات غابت بفعل التوحش الإنساني وتعمقت بمنظومات قيمية تنتمي لما يعرف بما بعد الحداثة ،فأعادت التذكير بمفاهيم من بينها “الأممية” بمرجعياتها الدينية والدنيوية، لكن هذه الأممية تبدو مقاربة مخادعة حينما راحت تبرز المكون والمخزون الثقافي للأمم والشعوب، فأكدت المقولات التي أشار إليها الدكتور اكبر احمد في كتابه “الإسلام وما بعد الحداثة، الوعود والتوقعات” بسقوط التقسيم السابق لدول العالم “عالم أول وثان وثالث” وان الدول اليوم تحولت الى دول عالم أول ودول عالم ثان تموج بالأول الانتاجات والاختراعات العلمية المختلفة وتتصالح شعوبه مع تاريخها وتنوعاته وتبحر في قيادة العالم الجديد بإنتاج المعرفة والمعلوماتية لتسوقها للعالم الثاني، الغارق في ثنائياته التاريخية وقداساته المغلقة، المنكر لحالة الغرق التي يعيشها، والرافض للنجاة والصعود للسفينة التي يقودها قبطان أعجمي.
هذه المقاربة بين العالم الأول المنتج والعالم الثاني المستهلك، لم تتأخر كورونا عن فضحها وكشفها،فراح العالم الأول وبحركة تنافسية بين أقطابه لفتح مختبراته أملا بإنتاج الترياق لمواجهة كورونا صحيا، ووقف انتشار الوباء والتكيف مع تداعياته الاقتصادية والاجتماعية، فيما جلس العالم الثاني لا حول ولا قوة له مقدما صورة مهينة من الضعف، ومقاربات تفسيرية للوباء بأنه مؤامرة حاكها الأعجمي، وعليه إنتاج اللقاح الشافي الواقي،فجلس منتظرا ما ينتجه العالم الاول،وبينما هو كذلك تعلن مختبراته انها عاجزة عن تقديم شي،اي شيء، فراح يفتح مختبراته ويتوسل لقاحاته البديلة التي تنتمي لقرون خلت ،ليعلن “وجدتها” فقدم ترياقه الشافي من إعشاب الشيح والقيصوم والميرمية، المنصوص عليها في كتب أطبائنا عند ابن سينا والكندي وغيرهم كثير، رضوان الله عليهم، فهم اول من اكتشف التخدير والدورة الدموية، متزامنة مع الدعاء لله ان يوقف العقوبة ويعفو عن المسيئين والفاسدين ممن جاءوا بهذا الداء،بعد انكشافات مهينة في مستوى الخدمات الصحية وعجزها وقصورها عن تقديم الحد الأدنى من شروط التكيف والاستجابة للجائحة، فيما كانت تمظهرات التكيف الاقتصادية والسياسيه بفرض قوانين الطوارئ والأحكام العرفية،وإعادة النظر بقوانين الضرائب بصورة تعزز اللاعدالة الاجتماعية، فيما سادت مظاهر الجشع والطمع والانانوية لدى البائع والمشتري على السواء.
وبالعودة الى عتبة العنوان،من المبكر الحديث عن مقاربة استشرافية واضحة ترسم صورة للسرديات العربية القادمة وتؤطر لتواصل لغوي للمفهوم الجمالي والاقناعي الذي تتمثله أجناس السرد الأدبي الحديثة من قصة فيسبوكية وخطابية في المدونات ووسائل التواصل الاجتماعي التي غيرت فيها قاعدة التلقي فصار المرسل مستقبلا والمستقبل مرسلا في حين راح النص السردي يتخذ تشكلاته المختلفة والمتباينة سريعا بفضل تلك التقانات التكنولوجية والقنوات الاتصالية،وصار المضمون السردي قابلا للتشكل لصالح فائض المعنى الذي أنشاه التلقي اللامحدود واللامنضبط، لكن المؤكد ان تمظهرات كورونا وتجلياتها، ستكون مفروضة بقوة، وهو ما يؤكد عليه استاذ السرديات العربية عبدالله إبراهيم،الذي يقول: ربّما يُزعزع وباء كورونا ركائز العدميّة التي ضربت أطنابها في غير مكان، ويَضع حدّاً لجهل الإنسان بنفسه وعالَمه، فيُعيد ترميم ذاته قبل فوات الأوان، فيما يراهن الدكتور سعيد يقطين على ان تكشف “الرضة السردية “أن جوهر الوضع البشري واحد، وما الأساطير القديمة وروايات الخيال العلمي سوى التجسيد الأوضح لهذا الوضع، وأن خيار الفعل الإنساني لفائدة الجميع هو رهان الحياة المطلوبة، مؤكدا ان دلالات “الرضة السردية ” هي ذاتها التي في الطب وعلم النفس ستتجسد في السرد على المستويين الفردي والجمعي.
ورغم ان بعض علماء الاجتماع العرب لا يراهنون على امكانيات تغيير واسعة وعميقة ،استادا لصلابة البنى العميقة في المجتمعات العربية، الا ان كثيرين ايضا يعتقدون ومن بينهم كاتب السطور، ان السرديات العالمية ومنها العربية بصورة اوضح ستقدم اجابات جديدة ،فرضتها كورونا بكل تداعياتها ،على تساؤلات عن الثنائيات الضدية “الحب والكره، الجمال والقبح، والموت والحياة، العلم والدين، القوة والضعف.،والتقارب والتباعد…الخ” وانها قد تقودنا الى سؤال الثلاثيات حيث بين الحب والكره والجمال والقبح كورونا بشرطيتها وبتموقعها الجديد في فضائنا، ورغم ان تلك الاجابات ستتنازعها الثورية والحدة في هتك بكارات المسكوت عنه، مقابل صلابة دفاعية تمثل طيفا واسعا، الا ان من المبكر تقديم سيناريوهات لمالاتها ومدى سرعتها في تحقيق التغيير، لكن المؤكد انها ستضيف قواعد صلبة جديدة في معماريات وهندسة التغيير.
سرديات كورونا في نسختها العربية ستشهد تغيرات في الثلاثية الاتصالية “المرسل الرسالة والمستقبل” فالمرسل سيجد مداخل جديدة تعكس وجهات النظر المختلفة في زاوية النظر للجائحة وتحرره من زاوية النظر الذي بقي اسيرا لها، وسيندر ملاحظة وجود طروحات وسطية ،بل ستذهب المعالجات باتجاهات اكثرحدية تذيب معها الايدلوجيا وانساقها المغلقة،كما هو حال الرسالة التي ستشهد تغييرات بالمزيد في تناول منظومات المسكوت عنه يقل فيها مستوى الرمزية، وستكون الرهانات على الموازنة بين الحفاظ على الملامح الادبية في بنية السرد الجديد، وكشف قناعات الرمزية والتخلي عن سلطتها في زمن كوروني لا يحيل الا لذاته، اما التلقي ومستوياته فسيشهد تحولات مرجعياتها توفر الوقت للقراءة وهو ما سيعيد الالق للرواية الطويلة، التي كانت تحارب للبقاء في ظل تسارعية التكنولوجيا، وتفوق الاجناس الادبية التي تتشكل بهدوء على حسابها كالقصة القصيرة وقصة الومضةوسيكون القاريء امام رغبة جديدة تشده نحو النص الكوروني في محاولة منه للبحث عن صورته في الاخر الذي يتساوى معه في ذات الزاوية والمسافة والرؤية.
ليس مطلوبا ان يوثق السرد الجديد صورة تاريخية للجائحة وتداعياتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية،فتلك مهمة المؤرخين، لكن هذا السرد سيتناول الإنسان بكينونته وتفاعله مع الجائحة، فالأدب كله كان محوره الإنسان وسيبقى كذلك، هذا الإنسان الذي عزل نفسه خوفا من سقوط قنبلة، او للاختباء من الوحش الشبح “كورونا”او لعدم قدرته على التكيف مع الجديد، وسيظل السرد مستجيبا لسيرورة الإنسان ،فالسرد في الوبائيات صار يشكل تمظهرا إنسانيا يحاول احتواء الأوبئة، كما تفعل المختبرات الطبية والبورصات والمعسكرات وكافة الاتجاهات الإنسانية الأخرى.