مقالات
السيناريست عماد النشار يكتب العَالَمُ يُدَارُ بِمِقْيَاسِ بُرُوكْرِسْت

تخيّل أنك تذهب إلى محلّ خياطة لتفصيل بدلة، لكن بدلاً من أن يأخذ الخياط مقاساتك، يجبرك على التناسب مع بدلة جاهزة بمقاس واحد للجميع. إذا كنت أطول، سيقصّك، وإذا كنت أقصر، فسيُمددّك حتى تصرخ مفاصلك احتجاجًا! يبدو مشهدًا سرياليًا، أليس كذلك؟ لكنه بالضبط ما كان يفعله “بروكرست”، أول مصمّم “موحّد” للبشرية، الذي لم يؤمن بفكرة التنوع، بل كان يرى أن الاختلاف جريمة، والعقوبة؟ سرير حديدي بحدود لا تقبل المساومة.
في أعماق الغابات اليونانية، كان “بروكرست” يترصّد المسافرين كقاطع طريق، لكنه لم يكن مجرد لص، بل حاملًا لفكرة مجنونة: أن البشرية يجب أن تتشكل وفق “النموذج الأمثل” الذي وضعه في ذهنه. لم يكن هذا التصور مستوحى من الفلسفة أو الحكمة، بل نبع من ساديته الخالصة.
في منزله، كان هناك سرير حديدي، ظاهره مكان للراحة، لكنه في حقيقته آلة تعذيب متنكرة في هيئة ضيافة. الضحية التي كانت أطول من السرير كانت تتلقى عقوبتها بلا رحمة؛ يتم بتر أطرافها حتى تتناسب مع المقاس المثالي. أما القصير المسكين، فكان يُشدّ كالعجين حتى تتفكك مفاصله صرخةً بعد أخرى. لم يكن الهدف مجرد القتل، بل كان فرض الانسجام القسري، إجبار الجميع على التوافق مع مقاييسه المريضة.
ورغم أن “بروكرست” لقي حتفه على يد البطل المغوار “ثيسيوس”، الذي لم يكن مجرد محارب، بل رمزًا للعدل والساعي لتحرير البشر من الطغيان والأساطير المظلمة، فإن إرثه لم يُدفن معه. بقيت فلسفته المظلمة تتجلى بأشكال حديثة أكثر تعقيدًا.
اليوم، لم يعد هناك سرير حديدي في غابة معزولة، بل أنظمة ومؤسسات تحكمنا بمبدأ “المقاس الواحد للجميع”، بشعارات براقة مثل “الاندماج الثقافي”، “حرية السوق”، و”المعايير الدولية”.
وقبل أن يصبح سرير بروكرست قانونًا عالميًا، كان سريرًا عائليًا، ومدرسيًا، ومجتمعيًا. يولد الإنسان في صندوق جاهز، يُقال له إنه بيته، لكنه أقرب إلى قالب صُنع مسبقًا، حيث تُحدد أحلامه قبل أن يبدأ الحلم، وتُرسم ملامحه قبل أن ينظر في المرآة. في المدرسة، يُقال له: “كن نفسك”، لكنه سرعان ما يدرك أن “نفسه” يجب أن تتطابق مع النموذج المثالي وإلا صار عيبًا يجب إصلاحه. في العمل، يُكافَأ من ينسجم، ويُعاقَب من يُغرد خارج السرب، بينما يُزينون القيد بشهادات تقدير ومناصب لامعة.
نحن لا نعيش خارج سرير بروكرست، نحن فقط ورثناه بحفاوة، وضعنا عليه أغطية أنيقة، وسمّيناه بأسماء أكثر لطفًا: التقاليد، النظام، الكفاءة… لكن في النهاية، المقصّ واحد، والفكرة واحدة: لا تكن أطول ولا أقصر، فقط كن بالحجم المطلوب، أو ادفع الثمن.
حين قرر ثيسيوس مواجهة بروكرست، لم يكن يواجه مجرد قاطع طريق، بل فكرة أعمق: فكرة فرض نموذج واحد بالقوة. اليوم، القوى العظمى لا تحب التنوّع، بل تسعى إلى قولبة الدول وفق مقاييسها الخاصة، تمامًا كما فعل بروكرست.
الدول التي تحاول شق طريقها الاقتصادي خارج القوالب الجاهزة تجد نفسها أمام صندوق النقد الدولي، أو كما يسميه البعض “بروكرست المالي”، حيث يكون الخيار الوحيد هو: إمّا أن تُبتر ميزانيتها عبر سياسات تقشفية قاسية، أو تُمدد ديونها إلى ما لا نهاية حتى تفقد الإحساس بالحياة.
من اليونان التي خضعت لتقشف قاسٍ بعد أزمة 2008، إلى الأرجنتين التي واجهت تخفيضات اجتماعية حادة بسبب برامج صندوق النقد الدولي، مرورًا بروسيا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، حيث أدى “العلاج بالصدمة” إلى نشوء الأوليغارشية (نظام يتركز فيه النفوذ الاقتصادي بيد قلة من رجال الأعمال)، وصولًا إلى المكسيك التي تأثرت باتفاقية نافتا (اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية التي فتحت أسواقها للشركات الأمريكية العملاقة على حساب الصناعات المحلية)، والعراق بعد 2003، حيث فرضت سياسات اقتصادية ليبرالية دمرت الإنتاج المحلي وجعلته معتمدًا على الاستيراد. كلها نماذج لاقتصادات أُجبرت على التكيف مع نموذج واحد مفروض، أحيانًا باسم الإصلاح، وأحيانًا تحت ضغط العولمة.
الشعوب التي تجرؤ على التفكير خارج الإطار المرسوم تُحاصر بالعقوبات الاقتصادية، والحروب الإعلامية، والتدخلات السياسية. حتى الحروب، لم تعد مجرد نزاعات، بل أدوات لفرض نموذج واحد على الجميع، تمامًا كما كان بروكرست يلاحق ضحاياه ليرغمهم على مقاسه المثالي.
قال برنارد شو ذات مرة: “الخياط هو الإنسان الوحيد الذي يأخذ مقاسي في كل مرة يراني، بينما يحاول باقي البشر جعلي مناسبًا لمقاساتهم القديمة.” لكن النظام العالمي لا يمتلك حكمة الخياط، بل يتصرف كنسخة متطورة من بروكرست، يرى أن الشعوب يجب أن تكون جميعها على مقاس واحد، وإلا فالعقوبة جاهزة.
البروكرستية لم تعد مجرد أسطورة يونانية، بل تحوّلت إلى واقع يُدير العالم بقفازات حريرية تخفي سكاكين التوحيد القسري. الثقافات تُجبر على الذوبان في ثقافة واحدة، حتى لو كان ذلك يعني قطع جذورها. الأنظمة السياسية تُفرض بالقوة، حتى لو كانت لا تناسب شعوبها. القوانين تُسنّ وفق معايير محددة، دون النظر إلى الظروف الفريدة لكل مجتمع.
لكن السؤال الأهم: هل يمكن تحطيم هذا السرير؟ هل يمكن خلق عالم يحترم التنوع بدلًا من سحقه؟ أم أننا، دون أن نشعر، نحمل مساميرنا الخاصة ونساهم في تثبيته، متوهمين أننا نرتاح بينما الحقيقة أننا مجرد مشاريع ضحايا قادمة.
وأخيرًا،كسر سرير بروكرست لن يكون بانتظار بطل إغريقي جديد، بل بإعادة التفكير في نماذجنا الاقتصادية والاجتماعية، وخلق مساحات تسمح بالتنوع والاختلاف، بدلًا من محاولة قولبة الجميع في مقاس واحد. فالعالم الذي يحترم التعدد هو وحده القادر على البقاء، أما العوالم التي تصرّ على بتر وتطويع شعوبها، فمصيرها أن تتهاوى كما تهاوى بروكرست نفسه.