
الإيمان الحقيقي: مسؤولية لا رفاهية
الحديث النبوي الشريف: “ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع إلى جنبِه وهو يعلم”، هو مقياس للإيمان يتجاوز الشعائر التعبدية ليلامس جوهر الأخلاق والمعاملة. إنه ينفي كمال الإيمان عمن لا يهتم بجاره المحتاج، ويؤكد على أهمية التكافل الاجتماعي والشعور بالآخرين ومساعدتهم.
الإيمان الحق يدفع الإنسان للإحساس بغيره. فإذا علم بوجود جار يعاني الجوع ولم يسعفه، دلّ ذلك على نقص في إيمانه وقسوة في قلبه. فالجوع أشد البلاء، وتقاعس القريب المكتفي عن إنقاذه خذلان للضمير.
وقد جسّد هذا المعنى العظيم الإمام عبد الله بن المبارك حين خاطب عابد الحرمين الفضيل بن عياض بهذه الأبيات الخالدة:
يا عابدَ الحرمينِ لو أبصرتَنا
لَعَلِمتَ أنكَ في العبادةِ تلعبُ
(يا عابد الحرمين، لو رأيتَ حالنا في الجهاد، لعلمتَ أن عبادتك مجرد لعب بجانب ما نفعله من التضحية لأجل الله.)
غزة: امتحان الأمة الحي
بإسقاط هذا الحديث على واقعنا اليوم، تبرز مأساة غزة كأوضح مثال. أهلنا هناك يعيشون حصاراً ظالماً وعدواناً متكرراً، محرومين من أبسط الحقوق: الغذاء، الماء، والدواء. بينما العالم من حولهم ينعم بالرخاء والاحتفالات، يموت الملايين جوعاً وعطشاً وخوفاً، لا يجدون قوت يومهم ولا مأوى آمناً.
هذه الفاجعة تضع الأمة الإسلامية كلها أمام امتحان عملي لهذا الحديث. هل إيماننا حقيقي إذا كنا نأكل ونشرب ونضحك، وننسى إخوة لنا يموتون جوعاً تحت القصف والحصار؟ هل يصح أن نرضى بالصمت والراحة ونحن نرى هذه الكارثة؟
غزة لا تطلب السلاح، بل تطلب التذكر والدعم
الحديث لا يطالبنا بالمستحيل، بل يدعونا للشعور، والتفاعل، والتحرك. علمنا بوجود الجياع دون مد يد العون نذير خطر على قلوبنا وإيماننا. نصرة غزة لا تقتصر على الأموال والتبرعات، بل تبدأ من إحساس صادق، ودعاء مستمر، وتحرك بكل ما نملك: كلمة حق، منشور نافع، ودعم سياسي وإعلامي.
غزة لا تطلب منا حمل السلاح. هي تطلب ألا ننساها، أن نذكرهم عند موائدنا، أن نُذكّر أبناءنا بحال أطفالهم، أن نقتطع من أرزاقنا شيئاً لهم، لنشعرهم أنهم ليسوا وحدهم في الميدان.
الإيمان الحق: رحمة وعمل
يجب أن تترجم معاني هذا الحديث في أفعالنا اليوم. نحن نعيش في زمن الشبع والغفلة، بينما تُدفن أرواح حية جوعاً وقهراً. الإيمان الحقيقي ليس بكثرة العبادات، بل بمقدار الرحمة التي نحملها للناس، خاصة للمظلومين، والجائعين، والمهجرين.
غزة هي العنوان الحي لهذا الامتحان. فليحاسب كلٌّ منا نفسه: ماذا قدمت لغزة؟ وما الذي منعني من نصرتها؟ هل هو البخل، أم الغفلة، أم الاعتياد على الألم؟
خاتمة: مقياس الإيمان وسلامة القلب
هذا الحديث النبوي العظيم ليس مجرد نص يُروى، بل هو مقياس لصدق إيمان الإنسان وسلامة قلبه. من رضي بالشبع وجاره جائع وهو يعلم، فقد خان المعنى الحقيقي للإيمان. وإن لم تكن غزة جارنا بالجدار، فهي جارنا في الدين والقضية والإنسانية. إذا لم نتحرك لها اليوم، فمتى نتحرك؟
اللهم لا تجعلنا من الغافلين، ولا ممن شبعوا ونسوا جوع إخوانهم، واجعلنا ممن يستشعرون آلام الأمة في قلوبهم، ويتحركون لها بأقوالهم وأعمالهم. وانصر أهل غزة وأطعمهم واسقهم واكفهم بما شئت يا أرحم الراحمين.

