نشاطات
إقرأ. تدبّر. إجتهد رؤية * هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية –
سلسلة خاصّة بالعشر الأواخر من رمضان وعنوانها: "العشر الأواخر من رمضان: فضائلها، عباداتها، وأثرها بعد الرحيل"

الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد
* العشر الأواخر من رمضان: موسم الغفران والعتق من النيران (2)
تأتي العشر الأواخر من رمضان كفرصة ذهبية للعبد الساعي إلى رحمة الله ورضوانه، فهي الأيام التي تتجلى فيها معاني العبودية والخضوع، وتشرق فيها أنوار المغفرة والعتق من النار، هذه الأيام ليست كسائر أيام الشهر، بل هي ذروة البركات، وميدان السباق إلى القرب من الله، حيث كان النبي ﷺ يجتهد فيها ما لا يجتهد في غيرها، كما في حديث عائشة رضي الله عنها: “كان النبي ﷺ إذا دخل العشر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله” (متفق عليه).
* الاجتهاد في العبادة: سنة نبوية
من أعظم ما يميز هذه الأيام أن النبي ﷺ كان يزيد فيها من عبادته، فكان يحيي الليل بالصلاة والذكر، ويوقظ أهله ليشاركوه في هذا الخير، ويشد مئزره، وهو كناية عن الجد والابتعاد عن الملهيات، وهذا دليل على أن العشر الأواخر ليست مجرد استكمال للصيام، بل هي محطة للارتقاء الروحي والتخلص من أدران النفس،
وفي هذه الليالي، يتجسد مفهوم التجرد لله، حيث يترك الإنسان انشغالات الدنيا ليُقبِل على العبادة بقلب مخلص، فكم من عبد في هذه الأيام يكتب اسمه في سجل الفائزين بالعتق من النار، وكم من متضرع قُبِلت دعواته، وكم من تائب غفرت ذنوبه، إنها أيام لا تعوض لمن أدرك قيمتها.
* ليلة القدر: قلب العشر الأواخر
في هذه الليالي المباركة، تختبئ ليلة القدر، التي قال الله عنها: ﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾ (القدر: 3). هذه الليلة ليست مجرد ليلة مباركة، بل هي فرصة لمغفرة الذنوب، وكتابة الأقدار، واستجابة الدعاء. وقد أمرنا النبي ﷺ بتحريها والاجتهاد فيها، ومن دعائه المشهور فيها: “اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني” (رواه الترمذي).
– وهذه الليلة تحمل سرًّا عظيمًا، فمن قامها إيمانًا واحتسابًا كُتب له من الأجر ما يعادل عبادة ألف شهر، وهو ما يزيد عن ثلاث وثمانين سنة، وهو عمر مديد قد لا يبلغه كثير من الناس، فأي خسارة أعظم من أن تمر هذه الليلة على العبد دون أن يغتنمها؟
* العتق من النار: الغاية الكبرى
رمضان كله موسم رحمة، لكن العشر الأواخر تمتاز بكونها أيام العتق من النار، كما جاء في الحديث: “ولله عتقاء من النار، وذلك كل ليلة” (رواه الترمذي). وهذا يوجب على المسلم أن يضاعف من استغفاره وتضرّعه، لأن العتق من النار لا يكون إلا لمن بلغ الإخلاص مداه، وأحسَنَ الصيام والقيام.
– إن العبد لا يعلم متى يحين أجله، وربما تكون هذه الأيام آخر ما يدركه من مواسم الخير، فكيف يفرط فيها؟ إن حُسنَ الخاتمة رزق عظيم، ومن أراد أن يكون من العتقاء، فليُقبل على الله بقلب صادق، فلا ضمان لأحد أنه سيعيش رمضان القادم.
* الاعتكاف: عزلة للروح في حضرة الله
كان النبي ﷺ يعتكف في العشر الأواخر، معتكفًا بقلبه وجسده في المسجد، مبتعدًا عن شواغل الدنيا. فالاعتكاف ليس مجرد عزل عن الناس، بل هو تفرغ تام لله، يعيد ترتيب الأولويات، ويطهر القلب من شواغل الدنيا.
– ثمّ إنّ الاعتكاف مدرسة روحية لمن فهم معناه، فهو يعلّم العبد الصبر، والإخلاص، والتأمل في نعم الله، ويجعله يتذوق حلاوة القرب من الله بعيدًا عن ضوضاء الحياة اليومية، وأي نعيم أعظم من أن يكون الإنسان قريبًا من ربه، يناجيه ويتضرع إليه في أحلك ساعات الليل؟
* كيف نغتنم العشر الأواخر؟
لكي يستثمر المسلم هذه الأيام كما ينبغي، عليه أن يجعلها نقطة تحول في حياته، لا مجرد محطة موسمية. وإليك بعض الوسائل العملية لتحقيق ذلك:
• قيام الليل بصدق وإخلاص: ولو بركعات قليلة، فإنها تضيء القلب وتقرب إلى الله.
• الإكثار من الدعاء والتضرع: وخاصة دعاء العفو والمغفرة، فهو مفتاح القبول.
• الإحسان والصدقة: فمن أراد أن يُعتق من النار، فليعتق غيره بالصدقة والمساعدة.
• ختم القرآن وتدبره: فهذا شهر القرآن، ومن لم يقرأه بتدبر فقد فوت خيرًا كثيرًا.
• التوبة الصادقة وتصحيح المسار: فالعشر الأواخر فرصة لمراجعة النفس والعودة إلى الله بصدق.
• الاجتهاد في البر والإحسان: كصلة الرحم، والتسامح، ونشر الخير في المجتمع.
• تحري ليلة القدر بجدية: فلا ينبغي التهاون فيها، بل يجب البحث عنها في كل ليلة.
* العشر الأواخر: لحظة التغيير الحقيقي
إن العشر الأواخر ليست مجرد أيام نختم بها رمضان، بل هي خُلاصة الشهر، وخير أيامه، وفرصة العمر لمن وفقه الله، فمن أراد الغفران، فلينشط في العبادة، ومن أراد العتق، فليُقبِل على الله بقلب صادق، ومن أراد أن يخرج من رمضان شخصًا جديدًا، فليجعل هذه الأيام نقطة تحول في مسيرته نحو الله.
• – فالسعيد حقًا من اغتنم هذه الليالي، ولم يجعلها تمر عليه كغيرها، ومن وفقه الله للعبادة فيها فقد نال الخير كله، نسأل الله أن يجعلنا من المقبولين، وأن يبلغنا ليلة القدر، وأن يعتق رقابنا من النار، فهو الكريم الوهاب..عنوان مقالة الغد بمشيئة الله:
“ليلة القدر: سرّها العظيم وفضائلها كما وردت في القرآن والسنة”
* تقبل الله الصلاة والصيام والقيام وسائر الطاعات وبلّغنا وإياكم ليلة القدر.
* مقالة رقم: (1908)
* 22. رمضان . 1446 هـ
* السبت. 22.03.2025م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)