مقالات

ذكريــــات الأســــــــتاذ/ كارم يحيى

حاولت عبثا أن اقنع الأستاذ سمير تادرس بأن يكتب ذكرياته. لكنه يأبي. جاوز الثمانين ولديه حصيلة غنية منها تبهرني عندما يأخذ في رواياتها عفو الخاطر. خاطرة هنا. وأخري هناك. ولكل منها قوة غريبة مستمدة من الصدق .

صدق الرجل الذي كان كاتبا صحفيا محترما ونقابيا شجاعا لم يتقلد يوما ما منصبا في مؤسسات المهنة أو خارجها . ولم يغتنم لا من الصحافة أو النقابة أو السياسة. وربما لهذا ولأسباب أخري أهديت لاسمه كتابي «تمرد في الثكنة: عن الصحافة المصرية وثورة 25 يناير» الصادر قبل نحو عامين.

(1)

استقبلني في وحدته الممتدة منذ سنوات. وكنت أحمل اليه تكريم النقابة مطلع فبراير الماضي. وعندما فتح العلبة المخملية الحمراء نبهني الي خطأ في كتابة اسمه علي لوحة التكريم: «تادروس» بدلا من «تادرس». لكنه عرج الي أول قانون للجنسية المصرية عام 1929 وفضله علي تسجيل أسماء العائلات والمواطنين. وانتهي الي رواية ملكت جوارحي. حكي لي للمرة الأولي تفاصيل اعتقاله أو بالأصح اختطافه فجر 5 سبتمبر 1981 بـ«البيجامة وفردة شبشب واحدة». كان ذلك قبل أيام معدودة من اغتيال الرئيس «السادات» ضمن حملة شملت نحو1500 شخصية عامة تحت عنوان مزيف مهزلة هو«التحفظ». وقام بصعوبة من مقعده الي مكتبته ليطلعني علي مقالين في «روزاليوسف» بعددي 11 و18 يناير 1982 حول واقعة اختطافه استقبل بهما الأستاذ «صلاح حافظ» الكاتب الصحفي الراحل وصاحب رواية «المتمردون» تولي اللواء «حسن أبو باشا» وزارة الداخلية، ولاحظت حينها سهولة وسرعة وصوله لعددي المجلة. وكأن الاشياء الأكثر الحاحا في المتناول حتي لو مضي عليها عشرات السنين.وماحدث أن «أبوباشا» اهتم وأبدي انزعاجا رغم ان واقعة الاختطاف البائسة جرت في عهد سلفه الرهيب «نبوي اسماعيل»، وهكذا استقبل «حافظ» بعد المقال الأول .فكتب مقاله الثاني تحت عنوان «قال لي وزير الداخلية». ومماقاله الوزير: «الشرطة في نظري لجميع المواطنين.لا شرطة حزب أو جماعة أو تيار». لكن الأستاذ «سمير» حكي المزيد مما لم تسجله أوارق المجلة . فقد دعاه الوزير أيضا الي فنجان قهوة، وأعتذر له عما بدر من قوة الشرطة التي اعتقلته، ودار حوار مشاغب بين وزير الداخلية الجديد والصحفي الحر المعتد بانسانيته ومواطنته ومهنته. وتجادلا حول تشبيه ما فعلته الشرطة مع المعارضين بسمعة النازي «هتلر». وقال الأستاذ «سمير» للوزير مامعناه انه قد يكون هناك فرق بين «نبوي» و«هتلر». وهو أن الأخير كان عنده فلسفة وان كانت خاطئة ، بينما الأول مارس النازية بأسلوب تجار المخدرات بـ«الباطنية».

(2)

روي لي هذه الحكاية أكثر من مرة وبنفس التفاصيل والتدفق والحماس. حكاية فصله من دار «أخبار اليوم» مع 37 زميلا صحفيا معظمهم من اليساريين بعدما تولي الأستاذ «هيكل» رئاسة مجلس ادارة الدار ومؤسسة «الأهرام» معا في عام 1965 تحت مسمي «هيئة الصحافة العربية المتحدة». كانت تفاصيل الفصل بكل المقاييس مؤلمة .لكننا كنا ننتهي في كل مرة للضحك عندما تصل الحكاية الي اللحظة التي يدفع فيها الأستاذ «سمير» ببضعة قروش الي يد حاجب المحكمة كي ينادي بصوت مرتفع مسموع للكافة باسم «محمد حسنين هيكل» خصما ومتهما مجردا من الألقاب في قضية ضد رئيس مجلس الادارة، والحقيقة ان رفع دعوي تتحدي فيها عواقب وتوابع القرار«السيادي» بطردك من العمل في صحافة الدولة وارسالك للعمل موظفا بهيئات حكومية مثل المؤسسة المصرية العامة للتأليف والنشر فالهيئة العامة للكتاب لم يكن أمرا مألوفا. فضلا عن الجهر باتهام وخصومة رجل علي هذا النحو قربا من قمة السلطة ومن الرئيس »عبد الناصر« نفسه .(3)

قبل أيام اتصل مساء علي هاتفي المحمول. كان سعيدا ومتأثرا باعادة جريدة «الأهرام» نشر مقال الاستاذ »هيكل« عن الشهيد «عبدالمنعم رياض» بعنوان «الجنود القدامي لا يموتون». فقد عاد المقال به الي يوم وداع الشهيد البطل، فروي لي كيف خرجت الجماهير فى10 مارس 1969الي جنازته وأطاحت بكل اعتبارات البروتوكول العسكري وتأمين كبار رجال الدولة .قال ان «عبد الناصر» رفض عندما عمت الفوضي نصائح أقرب رجاله بأن يسرع ليستقل سيارة الرئاسة. وقال إن «عبدالناصر» دفع بيديه ناصحيه ليبعدهم عنه واستمر وسط تدافع الناس بلا حراسة أو تأمين وفي عين الفوضي بلا نظام. وأضاف: «لم يهتف الناس لعبد الناصر.. كانت كل الهتافات للشهيد و للمعركة وللبلد». وعندما انتهت مكالمة الأستاذ «سمير» كنت قد استبقيت أثر (الزعيم/ الرئيس) الذي تحول في لحظات الوداع تلك الي واحد من الجماهير أو نقطة في لوحة كبيرة بلا أبطال سوي الشهيد الغائب الحاضر. لكنني لم اناقشه حينها فيما تولد عندي من انطباع عندما قرأت مقال الأستاذ «هيكل» في الصباح عن استعراض ذات كاتبه بصورة لافتة. وكأن المقال عن العلاقة بين رجلين: الشهيد موضوع الكتابة والكاتب نفسه.

<<<

اليوم الأول من ابريل 2014 يبلغ الأستاذ «سمير تادرس» 82 عاما. متعه الله بالصحة والعافية. وهون عليه الوحدة بعدما فقد الزوجة الصديقة. وأدام علينا المحبة. وهدي مؤسسة ما وطنية ومحترمة الي ان تأخذ علي عاتقها تسجيل شهادات أمثاله علي نحو علمي ونشرها. ولأن ماجري ويجري في هذا البلد لا يجب ان يكتبه أهل السلطة ومن حولهم وحدهم.

[email protected]

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق