مقالات
رؤية هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية – السلسلة مكوّنة من إثنتي عشرة مقالة * الاغتراب في الأوطان، لماذا نشعر أننا غرباء؟ (9) الاغتراب في الأوطان، لماذا نشعر أننا غرباء؟ (10)

الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
* حين يصبح المحيطُ ضيقًا: التحديات الاقتصادية وأثرها على الشعور بالانتماء
الانتماء إلى الوطن ليس مجرد إحساس فطري، بل هو علاقة متبادلة بين الفرد والمجتمع، تقوم على الشعور بالأمان، العدالة، والإمكانات المتاحة لتحقيق الذات، لكن حين تضيق الظروف الاقتصادية، وتصبح الحياة اليومية سلسلة من التحديات المعيشية، يتحول الانتماء إلى معادلة معقدة، حيث يجد الإنسان نفسه أمام تساؤل مستمر: هل هذا المكان يوفر لي حياة كريمة؟ أم أن بقائي فيه مجرد واقع مفروض عليّ؟
الاقتصاد كعامل محوري في تكوين الانتماء
يُعدّ الاستقرار الاقتصادي أحد أهم عوامل ترسيخ الارتباط بالمكان، حين تتوافر فرص العمل، ويشعر الإنسان أن مجهوده مقدَّر، يصبح الوطن مصدر طمأنينة. لكن حين تتراكم الأزمات، وتغيب الفرص، ويتسع الفارق بين الطموح والواقع، يبدأ الشعور بالاغتراب الداخلي، ويصبح الوطن نفسه وكأنه مكان لا يتيح لأبنائه تحقيق أحلامهم.
في الداخل، تتزايد هذه التحديات بشكل يجعل الفرد يشعر أن دائرة الإمكانيات تضيق عليه، سواء في سوق العمل، أو في فرص التطور الاقتصادي، أو حتى في القدرة على بناء مستقبل مستقر داخل مجتمعه، هذا التضييق لا يُنتج فقط مشاكل مادية، بل يترك أثرًا نفسيًا عميقًا يجعل الإنسان يشعر أن انتماءه بات هشًّا، وأن مستقبله محاط بالشكوك.
التحديات الاقتصادية وتأثيرها على المجتمع
1- البطالة وفقدان الأمل
تُعدّ البطالة من أكبر التحديات التي تواجه المجتمع، خصوصًا بين الشباب، الذين يجدون أنفسهم بعد سنوات من الدراسة أمام واقع لا يوفر لهم فرص عمل تتناسب مع قدراتهم، حين يستمر هذا الشعور بالإحباط لفترة طويلة، فإنه لا يؤدي فقط إلى مشكلات اقتصادية، بل يخلق حالة نفسية من عدم الجدوى، تدفع البعض إلى العزلة أو البحث عن بدائل غير مستقرة.
2- ضعف البُنية الاقتصادية المحلية
يعاني الاقتصاد في الداخل من غياب استثمارات جادة تخلق فرصًا حقيقية، مما يجعل الخيارات المتاحة محدودة، في كثير من الأحيان، يُجبر الشباب على العمل في وظائف لا تتناسب مع إمكانياتهم، أو على التنقل لمسافات طويلة من أجل إيجاد مصدر رزق، مما يترك أثرًا نفسيًا واجتماعيًا يجعل العلاقة مع المكان علاقة اضطرارية أكثر من كونها ارتباطًا نابعًا من الشعور بالانتماء؛ – وإن شئت فاسأل كم معلم لا يعمل وكم من طبيب لم يجد فرصة العمل وكم وكم وكم..
3- الضغوط المعيشية والتوتر الاجتماعي
حين يكون الدخل محدودًا، والتكاليف مرتفعة، تصبح الحياة اليومية معركة مستمرة للحفاظ على الحد الأدنى من الاستقرار، هذا الضغط لا يقتصر على الأفراد فقط، بل يمتد ليؤثر على العلاقات الاجتماعية، حيث تضعف الروابط الأسرية، ويزداد التوتر داخل المجتمع، مما يُنتج حالة من القلق الدائم بشأن المستقبل.
* كيف يمكن تعزيز الانتماء من خلال الاقتصاد؟
لإعادة بناء الشعور بالانتماء، لا بد من اتخاذ خطوات عملية تجعل الأفراد يشعرون أن وجودهم في هذا المكان ليس مجرد واقع مفروض، بل خيار يستحق الاستثمار فيه.
1- دعم المبادرات الاقتصادية المحلية
لا يمكن الحديث عن تعزيز الشعور بالانتماء دون وجود اقتصاد متين يوفر فرصًا حقيقية، وذلك من خلال دعم المشاريع الصغيرة، وتشجيع ريادة الأعمال، وفتح المجال أمام استثمارات جديدة، حينها سيُسهم ذلك في خلق بيئة اقتصادية أكثر استقرارًا، تجعل الأفراد يشعرون أن لديهم مكانًا في البيئة الاقتصادية، وليسوا مجرد متفرجين على واقع لا يستطيعون تغييره.
2- تطوير التعليم وربطه بسوق العمل
لا فائدة من التعليم إذا كان لا يؤدي إلى فرص عمل حقيقية، ربط التعليم بمتطلبات السوق، وتوفير برامج تدريبية تُؤهل الشباب للوظائف المطلوبة، سيجعلهم أكثر قدرة على دخول سوق العمل بثقة، وسيسهم في تقليل الفجوة بين التوقعات والواقع، مع العلم أن التحديات أمامنا كبيرة ومعقدة بسبب الواقع السياسي وتفشي العنصرية السياسية
3- خلق بيئة اقتصادية عادلة
حين يشعر الإنسان أن الفرص موزعة بعدالة، وأن الجهد يقابله تقدير حقيقي، فإنه يتمسك بمكانه ويسعى لتطويره، لذلك فإن بناء بيئة اقتصادية تقوم على تكافؤ الفرص، بعيدًا عن أي تمييز أو عوائق غير مبررة، سيجعل الأفراد أكثر ارتباطًا بمجتمعهم، وأكثر رغبة في المساهمة في تطويره.
خاتمة:
الاقتصاد والهوية وجهان لعملة واحدة
الانتماء لا ينشأ في فراغ، بل هو نتيجة مباشرة للظروف التي يعيشها الإنسان، حين تكون البيئة الاقتصادية صحية، يشعر الفرد أنه جزء من مجتمع متماسك، لديه مستقبل واضح، وأفق للنمو والتطور، لكن حين تتراكم التحديات، وتغيب الفرص، يصبح الشعور بالاغتراب هو القاعدة، والانتماء استثناءً يحتاج إلى ظروف خاصة كي ينمو، لذلك فإن أي نقاش عن الانتماء يجب أن يبدأ من الاقتصاد، لأن الكرامة الحقيقية تبدأ من القدرة على تحقيق الذات، والشعور بأن الجهد المبذول لا يضيع، بل يتحول إلى مستقبل آمن ومستقر، ولكم تحياتي وسلامي
* أمّا عنوان مقالتنا القادمة فهو: ( الاغتراب الديني: كيف يحافظ الإنسان على تدينه في بيئة متغيرة؟ )
* طاب صباحكم ونهاركم، وجميع أوقاتكم، ونسأله تعالى أن يحفظ مجتمعنا، وأن يُبرِم لهذه الأمة إبرام رشد.
مقالة رقم: (1875)
18. شعبان . 1446هـ
الأثنين . 17.02.2025 م
باحترام:
د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)
رؤية
هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية
– السلسلة مكوّنة من إثنتي عشرة مقالة
* الاغتراب في الأوطان، لماذا نشعر أننا غرباء؟ (10)
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
* الاغتراب الديني: كيف يحافظ الإنسان على تدينه في بيئة متغيرة؟
التديُّن ليس مجرد انتماء نظريٍّ أو طقوس شكلية، بل هو نمط حياة متكامل يشكّل هوية الإنسان وتوجّهاته. غير أن هذا التدين قد يُصبح غريبًا حين تتغير البيئة المحيطة، وتزداد الضغوط على من يتمسك بثوابته، فيجد الإنسان نفسه أمام تحدٍّ حقيقي: كيف يحافظ على تدينه وسط مجتمع يبتعد عن القيم الدينية، أو يسعى إلى إذابتها ضمن تيارات لا ترى للدين أولوية؟
بداية تعالوا بنا نتعرف على معنى (مفهوم الاغتراب الديني)
– الاغتراب الديني هو شعور الفرد بعدم الانسجام مع الوسط الذي يعيش فيه، حين تتناقض قيمه ومبادئه الدينية مع القيم السائدة من حوله، وقد أشار النبي ﷺ إلى هذا المفهوم حين قال: «بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ فطوبى للغرباء» (رواه مسلم).
فقد يشعر المتديّن بالغربة لأنه يرى نفسه متمسكًا بمبادئ لا تحظى بتقدير مجتمعه، أو لأنه يتعرض للانتقاد أو السخرية بسبب التزامه، وهذه الغربة ليست دليل ضعف، بل قد تكون علامة على ثبات الإنسان في طريق الحق، تمامًا كما كان حال الأنبياء والصالحين الذين وقفوا أمام مجتمعاتهم محافظين على نقاء عقيدتهم رغم التيارات المضادة.
* التحديات التي تواجه المتدين في بيئة متغيرة
هناك العديد من التحديات التي تجعل الالتزام الديني صعبًا في بعض البيئات، ومن أبرزها:
1- ضغط المجتمع وتغيّر القيم
عندما يسود نمط الحياة المادية، يصبح الالتزام الديني وكأنه قيد على “الحرية”، أو يتم تصويره وكأنه رجعية وتأخر عن الحداثة، في هذه الأجواء، قد يشعر المتدين أنه محاصر، وأنه أمام خيارين: إما مجاراة التيار، وإما تحمل العزلة والتهميش.
2- الإعلام والثقافة العامة
يلعب الإعلام دورًا كبيرًا في رسم صورة نمطية عن التدين، إما بتهميشه وإظهاره وكأنه أمرٌ ثانوي، أو بتصويره على أنه مجموعة من القيود التي لا تتناسب مع “الحياة العصرية”، وهذا يؤثر بشكل كبير على الشباب، الذين قد يجدون أنفسهم في صراع بين ما يؤمنون به وبين ما يُروَّج له على نطاق واسع.
3- ضعف البيئة الإيمانية
عندما لا يجد الإنسان بيئة تعينه على الثبات، يصبح الحفاظ على التدين أكثر صعوبة، فالصحبة الصالحة والمساجد والمجالس الإيمانية كلها عناصر تساعد الإنسان على الاستمرار في طريقه، وحين يفتقدها، فإنه يكون عُرضة للضعف والتراجع تحت تأثير المجتمع المحيط.
* كيف يحافظ الإنسان على تدينه؟
رغم هذه التحديات، فإن الإنسان المسلم قادر على الحفاظ على تدينه إذا التزم بعدة أمور أساسية:
1- ترسيخ العقيدة وتعميق المعرفة
كلما كان إيمان الإنسان مبنيًّا على علم ويقين، كان أقدر على مواجهة الشّبهات والضغوط، فالعلم الشرعي يجعل الإنسان أكثر ثباتًا، وأقل تأثرًا بالموجات المتغيرة، وقد أمر الله بذلك فقال: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ﴾ (محمد: 19)، فالعلم هو الأساس الذي يبني عليه الإنسان إيمانه.
2- الارتباط بالقرآن والسنة
القرآن هو النور الذي يضيء درب المؤمن وسط ظلمات الفتن والتغيرات، وهو مصدر الطمأنينة والثبات، كما أن السيرة النبوية تعطينا أمثلة رائعة على الثبات في مواجهة المتغيرات، فقد واجه النبي ﷺ وأصحابه ألوانًا من الغربة والرفض، لكنهم بقوا على الحق ولم يساوموا عليه.
3- البحث عن الصحبة الصالحة
قال النبي ﷺ: «المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل» (رواه الترمذي). فمهما كانت البيئة صعبة، فإن وجود أصدقاء صالحين يجعل الثبات أسهل، فالمؤمن يحتاج إلى من يشجّعه ويعينه، لا من يثبّطه أو يدفعه للتنازل عن مبادئه.
4- التوازن بين الثبات والتأقلم
الثبات لا يعني الجمود، بل هو قُدرة على التكيّف مع المستجدات دون أن يؤثر ذلك على الأصول والثوابت، فالإسلام دين متوازن، يدعو إلى الانفتاح دون أن يكون ذلك على حساب القيم والمبادئ، وهذا ما جسّده الصحابة والتابعون حين انتشر الإسلام في بيئات متعددة دون أن يذوبوا فيها أو يتنازلوا عن دينهم، فكانوا مؤّثرين ولم يكونوا متأثرين.
5- الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة
من أعظم وسائل الثبات أن يكون الإنسان داعيًا إلى الخير، عاملًا لنشر الحق. فحين يشعر أنه يحمل رسالة، يصبح أكثر تمسكًا بها، وأكثر قدرة على مواجهة العوائق، قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَآ إِلَى ٱللَّهِ وَعَمِلَ صَٰلِحًا وَقَالَ إِنَّنِى مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ﴾ (فصلت: 33).
* وأخيرًا وليس آخرًا
إن الاغتراب الديني قد يكون علامة على صدق الإيمان، لكنه لا ينبغي أن يكون مدعاة للانعزال أو الاستسلام، فالمؤمن لا يسير وفق التيار، بل هو من يصنع الفرق، ويثبت على مبادئه رغم كل التغيرات، والمتغيّرات، وكما أخبر النبي ﷺ، فإن «طوبى للغرباء»، أيْ أن لهم البشرى والخير العظيم في الدنيا والآخرة، ومن تمسك بهويته الدينية في زمن التغيّر، فقد فاز بثواب الله، وكان منارات هداية في مجتمعه. ولكم تحياتي وسلامي
* أمّا عنوان مقالتنا القادمة فهو: ( هل الغربة قدر أم خيار؟ قراءة في سبيل استعادة الإحساس بالانتماء)
* طاب صباحكم ونهاركم، وجميع أوقاتكم، ونسأله تعالى أن يحفظ مجتمعنا، وأن يُبرِم لهذه الأمة إبرام رشد.
مقالة رقم: (1876)
19. شعبان . 1446هـ
الثلاثاء . 18.02.2025 م
باحترام:
د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)