مقالات
رحيل عالمة روسية جليلة قضت 30 عاما في دراسة المخطوطات العربية البروفيسور الاكاديمية غالينا بافلوفنا ماتفيفسكايا رحمة الله عليها
محمود حمزاوي
Вчера, 30 января, на 94-м году жизни, умерла Галина Павловна Матвиевская. Второй инсульт. Светлая ей память
رحلت عن عالمنا يوم أمس مؤرخة العلوم العربية في القرون
الوسطى غايلينا ماتفيفسكايا عن عمر يناهز 94 عاما في مدينة اورينبورغ شرقي روسيا.
ربطتني بالراحلة صداقة عميقة وكنا على تواصل وزرتها في مدينتها واجريت معها حديث مسجل بيالفيديو . وكانت انسانة قمة في التواضع والبساطة وبنفس الوقت تتمتع بذاكرة ممتازة وذكاء لافت وحب للثقافة العربية وقد شرفتني بكتابة مقدمة لكتابي “تاريخ الرياضيات وتطورها الفلسفي” الذي صدر في 2024.
وقد قدمت للمكتبة العلمية التراثية العالمية كنوزا من الابحاث والكتب المتميزة والموسوعات.
مقتطفات من كتابي الاستشراق الروسي والعالم الاسلامي
غالينا ماتفييفسكايا (مواليد 1930) كأنموذج ساطع على دور المستعربـين الروس في إحياء التـراث العلمـي العربـي والإسلامـي في القرون الوسطى.
فقد أمضت ماتفييفسكايا ثلاثين عاماً في تـرجمة ودراسة المخطوطات العلمـية العربـية والإسلامـية ونشرت مئات الدراسات والبحوث العلمـية المعمقة ونذكر من أعمالها: “تاريخ دراسة المقالة العاشرة لإقليدس و”دراسات حول العدد في المشرق الإسلامـي في القرون الوسطى” و موسوعة “علماء الرياضيات والفلك المسلمـين وأعمالهم في القرون 8-17 ” (3 أجزاء). ولها دراسات عن الخوارزمـي والبـيـرونـي والفارابـي وابن لبان وابن عراق ونصيـر الدين الطوسي وابن البغدادي وابن قرة وابن سينا والصوفي والقزوينـي وأبـي عبد الله الخوارزمـي (صاحب مفتاح العلوم) والعاملي وغيـرهم. إن هذه العالمة الروسية الجليلة، التـي تـركت بصمات واضحة في دراسة المخطوطات الرياضية والفلكية العربـية، تتمـيـز بالتواضع الشديد كعالمة كبـيـرة أعتبـر اننا كعرب ومسلمـين مدينون لها. وليس صدفة أنها كثيـراً ما تستشهد بعبارات العالم المسلم الكبـيـر محمد بن موسى الخوارزمـي في مقدمة كتابه الشهيـر: “كتاب الجبـر والمقابلة”، حيث قال:
“ولم تـزل العلماء في الأزمنة الخالية والأمم الماضية يكتبون الكتب، مما يصنفون من صنوف العلم ووجوه الحكمة، نظراً لمن بعدهم واحتساباً للأجر، بقدر الطاقة ورجاءً أن يلحقهم من أجر ذلك وذخره وذكره ويبقى لهم من لسان الصدق ما يصغُر في جنبه كثيـر مما كانوا يتكلفونه من المؤونة ويحملونه على أنفسهم من المشقة في كشف أسرار العلم وغامضه. إما رجل سبق إلى ما لم يكن مستخرجاً قبله، فورثّه من بعده؛ وإما رجل شرح مما أبقى الأولون ما كان مستغلقاً، فأوضح طريقه وسهل مسلكه وقرّب مأخذه؛ وإما رجل وجد في بعض الكتب خللاً فلمّ شعْثَه وأقام أوده وأحسن الظن بصاحبه غيـر زادٍ عليه ولا مفتخرٍ بذلك من فعل نفسه” .
وتقول ماتفييفسكايا في مقدمة كتابها عن دور العلماء العرب والمسلمـين في التقدم العلمـي البشري[34-36] “بدأت، مع تـزايد الاهتمام بالمخطوطات العربـية ودراسة محتوياتها منذ أواسط القرن التاسع عشر، تتغيـر الفكرة الخاطئة التـي تفيد أن فضل علماء المشرق يقتصر على حفظ التـراث اليونانـي والهندي ونقله إلى أوروبا. فقد تبـين أن علماء الإسلام قدموا إسهامات واكتشافات علمـية ونظريات جديدة. وهناك نتائج علمـية عمـيقة تـركت أعظم الأثـر في أعمال علماء أوروبا في القرون 13-16 م.
لقد قدم العلماء العرب – كما تؤكد ماتفييفسكايا- أجوبة على أسئلة العصر وبلوروا علوماً رياضية جديدة ومستقلة مثل الجبـر وحساب المثلثات المستوية والكروية والطرق الحسابـية والهندسة القياسية. ويجدر الذكر هنا أن البـروفيسور رشدي راشد انتقد مفهوم نقل العلوم ويقول: ينبغي الحديث هنا عن امتداد وتوسع للرياضيات اليونانـية وليس عن مجرد نقلها إلى العربـية وعن تشكل علم الجبـر بوصفه اختصاصا مستقلا بذاته داخل علم الرياضيات.
وتتابع ماتفييفسكايا: “يمكن الوصول إلى هذا الاستنتاج (حول دور العلماء العرب) على أساس دراسات قام بها روزنفيلد ب. ويوشكيفيتش أ. حول نظرية الخطوط المتوازية في المشرق القروسطي. وتورد ماتفييفسكايا مثالاً آخراً وهو نظريات العلماء العرب حول العدد، والذي قامت بدراسته بالتفصيل.
دراسات ماتفييفسكايا حول تطور مفهوم العدد
كان موضوع رسالتها للدكتوراه في العلوم الرياضية بعنوان: ” دراسات حول العدد في المشرق القروسطي”. وقد نشرت ماتفييفسكايا تلك الرسالة في كتاب خاص بنفس العنوان. ويعتبـر هذا الكتاب عملاً موسوعياً ضخماً يلقي الضوء بالتفصيل على التطور التاريخي لمفهوم العدد والمقدار منذ القدم وخاصة عند العلماء العرب والمسلمـين.
وركزت المستعربة ماتفييفسكايا بشكل خاص على الجبـر الهندسي اليونانـي ومفهوم العدد الأصم عند إقليدس. وقامت بتـرجمة أهم المخطوطات العربـية إلى الروسية والتـي كرست لشرح المقالة العاشرة من “الأصول” لإقليدس حول الكمـيات الصماء. ومن تلك المخطوطات: مخطوطة المهانـي (ق. 9) “تفسيـر المقالة العاشرة من كتاب إقليدس” والخازنـي (ق. 10) “شرح المقالة العاشرة من كتاب إقليدس” وابن البغدادي (ق. 10) ” رسالة ابن البغدادي في “المقاديـر المشتـركة والمتباينة” وهي شرح للمقالة العاشرة من “الأصول” لإقليدس والهاشمـي (ق. 10). ودرست مخطوطات ابن الهيثم (ق.10-11) ويوحنا ابن حارث بن البطريق القس (ق. 10) ونصيـر الدين الطوسي (ق.13) والنـيـريـزي (ق. 9-10) وغيـرهم.
ثم عرضت تطور الرياضيات في البلاد الإسلامـية وقسمت الحساب إلى حساب نظري وحساب عملي. وتتحدث عن الجبـر والخوارزمـي. ثم تنتقل إلى مفهوم العدد الأصم (اللانسبـي) عند إقليدس ودور العلماء العرب في تطويـر تلك العلوم الرياضية وخاصة تطور مفهوم العدد. كما تطرقت ماتفييفسكايا إلى نظرية النسب وتوسيع مفهوم العدد واختتمت كتابها بالحديث عن تأثيـر العلوم العربـية في النهضة الأوروبـية.
بالرغم من أن نـيقوماخوس فصل مفهوم العدد عن الهندسة، وأن ديوفنطس قام بحل المعادلات السيالة (غيـر المحددة) في مجموعة الأعداد النسبـية، إلا أنهما لم يتوصلا إلى ما توصل إليه العلماء العرب والمسلمـين وهو مفهوم العدد الحقيقي.
وللعدد، كما هو معروف، قصة تاريخية طويلة. وساهم العرب بقسط كبـيـر في بلورة مفهوم العدد الحقيقي متقدمـين بذلك على علماء اليونان، الذين نظروا إلى العدد على أنه عدد طبـيعي وتعاملوا مع المقدار الهندسي وليس مع العدد الذي اعتبـروه مفهوماً مجرداً عن الهندسة.
وقد درست الباحثة الروسية، بشكل دقيق، مفهوم العدد وتطوره لدى العلماء العرب والمسلمـين وأشارت إلى أن الجبـر أصبح لأول مرة علماً مستقلاً طبقت طرقه لحل عدد كبـيـر من المسائل النظرية والتطبـيقية. علماً أن الجبـر اليونانـي اصطدم بصعوبة كبـيـرة، لأنه تقيد بالربط بـين مفهوم العدد والمقدار الهندسي. وقد حاول ديوفنطس تحريـر الجبـر من الهندسة، ويبدو – حسب ماتفييفسكايا- أنه اعتمد على التقاليد البابلية الحسابـية الجبـرية القديمة. كما لوحظ اتجاه حسبنة الجبـر في تطويـر الرياضيات الهندسية. ومن جهة أخرى تقدمت الرياضيات الهندية خطوة إلى الأمام مقارنة بجبـر ديوفنطس لأن الهنود أجروا عمليات ليس فقط على الأعداد النسبـية وإنما اللانسبـية أيضاً. ولكن الهنود لم ينظروا إلى الطبـيعة الحسابـية للكمـيات الصماء واستخدموا العدد السالب في حل المعادلات التـربـيعية. وربما تأثـر الهنود بالرياضيات الصينـية التـي استخدمت العدد السالب (نقصان). وتوصل الهنود إلى قواعد العمليات الحسابـية على الأعداد الموجبة والسالبة (سموها دَيْن) واكتشفوا قيمتـي الجذر التـربـيعي وقطعوا شوطاً في التـرمـيـز الجبـري.
وقد اعتمد رياضيو البلدان الإسلامـية في القرون الوسطى على التـراث الهندي واليونانـي وطوروا – بـرأي ماتفييفسكايا – الرياضيات البابلية القديمة. فإبان القرن التاسع للمـيلاد لم يكتف العلماء العرب بالمعرفة الواسعة للرياضيات اليونانـية بل تجاوزوها إلى تكوين معرفة بحثية ولهذا تمـيـزت معرفتهم بطابعي النقد والإبداع. فالعرب لم يجعلوا الجبـر علماً رياضياً مستقلاً وحسب، بل طوروه بدرجة كبـيـرة. وتؤكد ماتفييفسكايا على أن العرب لم ينظروا إلى الجبـر كعلم لحل المسائل وإنما لتدريب العقل. وتـرى أن العلماء المسلمـين في مؤلفاتهم قاموا بحسبنة الجبـر. وهذا ما توصل إليه راشد وكتب عنه بالتفصيل في كتابه الشهيـر: “تاريخ الرياضيات العربـية بـين الحساب والجبـر”.
ومن جهة أخرى استخدم العرب الهندسة لحل المعادلات الجبـرية (بتأثيـر الجبـر الهندسي اليونانـي). ونظرية حل المعادلات التكعيبـية باستخدام القطوع المخروطية. وتعود هذه النظرية إلى الخيام وكذلك لابن الهيثم والخازن. وبذلك حل العرب – كما تـرى ماتفييفسكايا- مسائل كان قد طرحها أرخمـيدس في كتابه عن “الكرة والأسطوانة”.
وتوصل العلماء العرب والمسلمـين إلى مفهوم الحل العددي التقريبـي للمعادلات الجبـرية. فمثلاً قام البـيـرونـي بحل المعادلة التكعيبـية: x 3 = 1 + 3x في النظام الستـينـي والتـي نتجت عن مسألة إنشاء مضلع منتظم ذي عشرة أضلاع. كما أعطى الكاشي طريقة عبقرية تعتمد على الاستكمال الخطي لحل المعادلة التكعيبـية: x3+Q=px وهي طريقة متطورة لا تقل دقة عن الطرق التـي ظهرت في أوروبا بعد فييت الفرنسي.
وعن الجبـر، تضيف المستعربة الروسية قائلة: تقدم العرب على اليونان في الجبـر وتطبـيقاته كثيـراً، لأنهم لم ينظروا إلى الجبـر كهندسة وإنما كنظرية عددية. وبـرز هذا الاتجاه بشكل واضح في شروحات العلماء العرب للمقالة العاشرة من “الأصول” لإقليدس. وتؤكد الباحثة على أن العلماء العرب هم أول من توصل إلى التـرمـيـز الجبـري بشكل واضح انتقلت بعض مؤثـراته إلى أوروبا وما زالت حتى الآن كرمز الجذر التـربـيعي الذي يعتبـر حرف الجيم (أول حرف في كلمة الجذر) ولكنه مقلوب. وقد استخدم القلصادي (ق 15) رموزاً جبـرية للمجهول (ش من كلمة شيء) ولمربع العدد (م من كلمة مال) والمساواة (ل من كلمة يعدل) والجذر التـربـيعي(جـ من كلمة جذر). بـينما استخدم ابن حمزة المغربـي (ق 16) مجموعة أشمل وأكمل للرموز الجبـرية. لكن الباحث محمد أبلاغ يشيـر إلى أن ابن الياسمـين (ق. 12) استخدم الرموز الجبـرية قبل القلصادي بعدة قرون. وهذا ليس بغريب لأن القلصادي كان قد اطلع على هذه الرموز عند ابن الياسمـين في شرح أرجوزة ابن الياسمـين.
وفي هذا الإطار نورد تحليل د. رشدي راشد حول دور العلماء العرب والمسلمـين، حيث يقول:
“فيما بـين القرنـين الثامن والرابع عشر المـيلاديين اكتمل عقد البحث العلمـي بشخصيات علمـية بارزة كالخوارزمـي أول من كتب في علم الجبـر، وابن الهيثم الذي ندين له بأول ثورة علمـية في مجال المناظر خصوصا والفيـزياء على وجه العموم، وعمر الخيام الذي وضع أسس فرع جديد في علم الرياضيات وهو الهندسة الجبـرية. غيـر أنه وعلى الرغم من عظمة هؤلاء وزخم وثـراء عطائهم، فإن البحث العلمـي لم يتخذ طابعاً فردياً فحسب بل قامت به هيئات منظمة من العلماء مثلت مجموعات بحث تنتمـي إلى مدارس قائمة. ولنضرب مثالاً هنا عدًّا لا حصراً من أواسط القرن التاسع المـيلادي بالآثار العلمـية لمجموعة بنـي موسى في الرياضيات والفلك والمـيكانـيكا. أو من القرن الثالث عشر بمدرسة مراغة بمراصدها وفئات باحثيها في علم الفلك”.
وقد كانت العلوم في الإسلام مكوناً رئيسياً من مكونات العلوم الكلاسيكية والتـي تمـيـزت بملمحين هما: أولاً: عقلانـية جديدة جبـرية (نسبة للجبـر الرياضي) وتحليلية. ثانـياً: التوجه العلمـي الجديد نحو التجربة بوصفها أساس الاستدلال في علم الفيـزياء ومقوماً من مقومات النقد في البحث العلمـي [40]. ويظهر ذلك عند الفارابـي في كتابه “إحصاء العلوم” وعند ابن سينا في كتابه “أجزاء العلوم الفلسفية” وفي “كتاب الشفاء” .
وتتابع ماتفييفسكايا: “التـزم علماء هذه المرحلة بالنظرة القديمة حول مفهوم العدد والمقدار وهم يدركون الفرق الجوهري بـين هذين المفهومـين. وبالتدريج انمحت الفوارق بـين المفهومـين. ففي البداية عمم مفهوم العدد على الكسور (العادية) ثم على النسب المتجانسة (المشتـركة والمتباينة)”. وهذه طريقة جديدة – حسب رأي الباحثة- في العلم الرياضي، حيث استخدم الجبـر والحساب العملي على نفس المستوى. وبعد ذلك أصبح العلماء العرب اثناء حلهم للمسائل التطبـيقية يتعاملون مع النسبة كعدد نسبـي (الكسور) وكعدد أصم (الجذور). كما أن عملية الفصل بـين الهندسة (علم المقاديـر المستمرة أو المتصلة) والحساب (علم المتقطعات) شكلت عقبة منطقية كبـيـرة أمام تطور الرياضيات اليونانـية التـي أصابها الضمور والانحسار. والمخرج كما هو معروف جاء على يد العلماء العرب بالجمع والدمج بـين مفهوم العدد (الطبـيعي والنسبـي) والمقدار (الأصم) للوصول إلى مفهوم أعم وأشمل وهو العدد الحقيقي الموجب. إلا أن صياغة مفهوم العدد الحقيقي بمعناه الرياضي الدقيق فهي مسألة معقدة عمل عليها العلماء حتى القرن التاسع عشر للمـيلاد. ومن خلال الاطلاع على بعض المخطوطات العربـية في الحساب نجد أن العلماء العرب توصلوا إلى تطويـر نوعي وجوهري لنظرية الأعداد مقارنة باليونان فقد تمت حسْبَنَة النظرية الهندسية للمقاديـر الصماء فأصبحوا يتعاملون معها كأعداد مستقلة عن المفاهيم الهندسية.
ويكفي أن نذكر هنا على سبـيل المثال لا الحصر الرياضي والفلكي والفيلسوف والشاعر عمر الخيام (ق 11-12م) الذي درس كمـية النسبة وتعامل معها كعدد إما صحيح أو كسري أو أصم وهذا تطويـر للرياضيات اليونانـية، ويقول الخيام أن دراسة الصلة بـين مفهومـي النسبة والعدد هي دراسة ذات طبـيعة فلسفية ويؤكد الخيام على الفصل بـين نظرية العدد والهندسة، ويذهب إلى أبعد من ذلك فيقول بأنه “يجب عدم اعتبار المقدار خطاً أو سطحاً أو جسماً بل يجب اعتباره مجرداً من هذه الأشياء الملموسة، أن يتم تصوره كعدد”. ويتوصل الخيام إلى دراسة نظرية معمقة لمفهوم العدد غيـر المُنْطَق بالاضافة لتقديمه فهمه لوضع العدد غيـر المُنْطَق ككائن رياضي قائم بذاته. وفي ذلك يتجلى التحول الهائل في مفهوم العدد مما أدى لتطويـر الحساب والجبـر عند العرب والذي أدى بدوره إلى تسريع مهمة العلماء الأوربـيين في هذا الإطار “.
أما عن سبب خلط إقليدس بـين صناعة (علم) العدد والهندسة فيقول الخيام في مقالته الثالثة “في تأليف النسبة وتحقيقه” “فإن ذلك يعود “لأمرين: أحدهما ليكون كتابه [الأصول] مشتملاً على أكثـر قوانـين علم الرياضيات- ونعم ما رأى هذا- والثانـي أنه محتاج إلى علم العدد في المقالة العاشرة، ولم يـرد أن تكون بـراهين كتابه محتاجة إلى شيء خارج عن كتابه من علم الرياضيات؛ إلا أنه كان من الواجب أن يقدم العدديات على الهندسيات كما هما عند الوجود والعقل. ولكن البـراهين العددية أصعب إدراكاً من البـراهين الهندسية” [41-42].
ويقول ابن البغدادي في هذا الإطار: ” فأما من خدم صناعة العدد وحدها فإنه مع شدة حاجته إلى النظر في هذه المقالة [العاشرة] بما يقوده إلى البـرهان عليها وإن كانت له طرق من الاعتقاد يـرد بها فرع الشيء إلى أصله ومتشابهه إلى حقيقته لأن فرض العدد وتوابعه أسهل على النفس من فرض القدر[المقدار] ولواحقه” أي أنه يفضل التعامل مع العدد على المقدار.
وبعد اطلاعها على المخطوطات العربـية في مجال العدد توصلت ماتفييفسكايا إلى استنتاجات مهمة حول تطور مفهوم العدد أهمها:
1) لقد انتبه العلماء العرب إلى الصلة الوثيقة بـين تصنـيف المقاديـر الصماء في المقالة العاشرة وبـين المعادلات الجبـرية من الدرجة الثانـية والرابعة وإيجاد جذورها.
2) وضع بعض علماء الرياضيات العرب مسألة التأسيس النظري للعمليات الحسابـية على الجذور التكعيبـية كنوع من الأعداد الصماء.
3) إن أعمال الكرجي المتمـيـزة مثلاً كتابه “البديع في الحساب” تضمنت تطويـراً جوهرياً لدراسة ليس الجذور االتـربـيعية والعمليات عليها وحسب بل الجذور من أي مرتبة، والعبارات المكونة منها (مثل ثنائي الحد). وقد كتب ب. لوكي: “لَوْ كان هناك مواصلين حقيقيين لبحوث الكرجي لتوصلوا إلى استبدال الجذور التـربـيعية في الطرف الأيمن من العلاقة المعروفة إلى جذور تكعيبـية لحصلوا على علاقة كوردانو. وهذه الملاحظة يمكن توضيحها من عبارة ثنائي الحد التـي بإيجاد جذرها يمكن الوصول إلى حل المعادلة التكعيبـية.
ونضيف هنا بأن بعض المؤلفات الجبـرية تعاملت مع الجذور التـربـيعية باعتبارها عدداً بدون دراسة طبـيعته. ومن يقرأ المقالة العاشرة لإقليدس يجد أنها تؤسس للرياضيات على أساس هندسي. ولكن عند تـرجمة هذه النظريات والتعاريف إلى اللغة الجبـرية المعاصرة فإن الأمر يختلف تماماً وتـزول الصعوبات في فهم الطبـيعة العددية للمقاديـر الصماء. وهذا بالضبط ما فعله العلماء العرب حيث قاموا بحسبنة النظرية الإقليدية للمقاديـر التـربـيعية الصماء (الجذور التـربـيعية) وهذه الخطوة لا يمكن وصف أهمـيتها ودورها في دفع الرياضيات إلى الأمام وخاصة في مجال نظرية العدد ومفهوم العدد الحقيقي [42]. وتعتبـر أفكار العلماء العرب حول حساب القطع المستقيمة، والتـي مهدت لظهور مفهوم العدد الحقيقي، مقدمة لظهور الأفكار الرياضية عند ديكارت.
بعض الأعمال الرياضية الأخرى للباحثة ماتفييفسكايا
دراسات في المثلثات الكروية من خلال تـرجمة وشرح مخطوطة أبـي نصر بن عراق (ق. 10) “إصلاح كتاب منالاوس في الأشكال الكرية”. طشقند. 1983.
كتاب حول مخطوطة بهاء الدين العاملي (ق. 16-17) “خلاصة أعمال الحساب”. تـرجمة وتعليق رياضي وتاريخي. نشر في طشقند. 1992. وتقول في خاتمة الكتاب: “إن مؤلفات العاملي وتلامذته مثل محمد نجم الدين واليـزدي تؤكد بأن الأعمال الإبداعية الأصيلة للعلماء العرب والمسلمـين لم تتوقف، كما يقول البعض، في القرن الخامس عشر مع مدرسة أولغ بك في سمرقند، وإنما استمرت في القرنـين السادس عشر والسابع عشر.
كتاب عن حياة وأعمال عالم الفلك عبد الرحمن الصوفي (ق. 10) . موسكو. 1999. وركزت بشكل خاص على مخطوطة الصوفي: ” كتاب صور الكواكب الثابتة” و”رسالة الإسطرلاب”
“كتاب أولغ بك”. موسكو. 1997. وفيه تتحدث عن حياة أولغ بك (ق. 14-15) ونشاطه العلمـي الكبـيـر. فقد كان حاكماً لسمرقند وعالماً كبـيـراً وهو حفيد تـيمورلنك. وفي عهد أولغ بك تشكلت في سمرقند مدرسة فلكية علمـية كاملة تبحث في الرياضيات والفلك في القرن الخامس عشر. وهو الذي أمر ببناء مرصد سمرقند، وكان لأولغ بك إسهامات علمـية مثل مشاركته في كتابة “زيج أولغ بك” إلى جانب كبار علماء عصره أمثال الكاشي والقوشجي وقاضي زاده الرومـي ومريم شلبـي ونظام الدين البـرجندي. أما مكان مرصد سمرقند فقد اكتشف بعد أربعة قرون من إنشائه.
كتاب: ” حول تاريخ الرياضيات في آسيا الوسطى”. نشر في طشقند. 1962.
كتاب: “لمحة من تاريخ حساب المثلثات” . نشر في طشقند. 1990. وفيه تتحدث ماتفييفسكايا عن تطور المثلثات المستوية والكروية في اليونان والهند والعالم الإسلامـي. وبعد دراسة مفصلة لحساب المثلثات، توصلت الباحثة إلى استنتاج مفاده أن العرب والمسلمـين هم من جعل حساب المثلثات علماً رياضياً مستقلاً عن الفلك. وتذكر بدور ابن عراق والبـيـرونـي والطوسي.
موسوعة “علماء الرياضيات والفلك في العالم الإسلامـي في القرون الوسطى ومؤلفاتهم” (ق. 8-17) .
تعد هذه الموسوعة من أهم أعمال ماتفييفسكايا وقد ضمتها خلاصة أبحاثها في تاريخ الرياضيات العربـية التـي قامت بها على مدى عشرات السنـين وقد أعدت هذا المؤلف الضخم بالتعاون مع المستعرب الروسي- الأمريكي المعروف ب. روزنفلد . وتتكون الموسوعة من 3 أجزاء.
يضم الجزء الأول تعريفاً مفصلاً بالعلوم الرياضية العربـية مثل التـرقيم والحساب وجمع المتسلسلات والمعادلات الجبـرية واستخراج الجذور والهندسة وحساب المثلثات والطرق التفاضلية والتكاملية. وكذلك عن العلوم الطبـيعية: الفلك والآلات الفلكية والجغرافيا والمـيكانـيكا والبصريات وغيـرها. وتطرق إلى مسائل فلسفة الرياضيات والعلوم الطبـيعية عن العرب والمسلمـين.
أما الجزء الثانـي من الموسوعة وهو الأهم من بـين الأجزاء الثلاثة، حيث يقدم هذا الجزء تعريفا بحياة ومؤلفات أكثـر من ألف عالم رياضيات وفلك عربـي ومسلم عاشوا بـين القرنـين الثامن والسابع عشر. وقد أشار المؤلفان في هذه الموسوعة بأن مؤرخ العلوم سوتـر ن. عرض لحياة وأعمال حوالي 500 عالم عربـي ومسلم، وأرادا أن يوسعا هذه الموسوعة لتشمل ألف عالم. ومع ذلك فالموسوعة قدمت خدمات لا توصف للباحثين في تاريخ الرياضيات والفلك العربـية، المستخدمـين للغة الروسية، وما زالت حتى الآن.
وكرس الجزء الثالث من الموسوعة للتعريف بعلماء لم تعرف تواريخ حياتهم، وبمخطوطات مجهولة المؤلف وكذلك فهارس رتبت حسب أسماء العلماء وأخرى حسب عناوين المؤلفات.
العلماء العرب أم العلماء المسلمون؟
تناقش ماتفييفسكايا مصطلح “الرياضيات العربـية” فتشيـر إلى أن هذا المصطلح ليس دقيقاً لأنه من الأصح أن نطلق اسم رياضيات أو ثقافة شعوب آسيا الوسطى. وبما أن الكتاب منشور في العهد الشيوعي السوفياتي فإن ماتفييفسكايا تبتعد عن وصف الرياضيات بالإسلامـية وتـركز على الرياضيات في آسيا الوسطى، سيما وأنها عملت في مدينة طشقند وكانت متـزوجة من عالم أوزبـيكي.
وقد تطرق المستعربون الروس أمثال أ. يوشكيفيتش إلى “مصطلح الرياضيات العربـية” وكان يفضل تسمـية تلك الرياضيات “بـرياضيات الشعوب الناطقة بالعربـية”. وفي كتابه عن تاريخ الرياضيات في العصور الوسطى يستخدم مصطلح الرياضيات في بلاد الإسلام.
بـينما استخدم كراتشكوفسكي (ت 1951)، وهو شيخ المستعربـين الروس، مصطلح الاستعراب في روسيا واعتبـر العلوم عربـية. وألف كتباً قيمة في هذه المواضيع مثل: “نبذة من تاريخ الاستعراب في روسيا” و “مع المخطوطات العربـية” و “تاريخ الأدب الجغرافي العربي”.
وقد تمـيـز في أواسط القرن الماضي مؤرخ الرياضيات الروسي المعروف يوشكيفيتش (ت 1993) بنظرته الموضوعية تجاه العلوم العربـية والإسلامـية، حيث أكد على أن الثقافة العربـية والإسلامـية جزء أساسي وحتمـي من الثقافة العالمـية. وأن العلماء العرب لم ينقلوا العلوم القديمة من يونانـية وهندية وغيـرها ويحافظوا عليها من الضياع وحسب، بل أنهم أبدعوا نظريات جديدة. وقد قام يوشكيفيتش نفسه بدراسات قيمة في تاريخ الرياضيات العربـية والإسلامـية لاقت شهرة ورواجاً في العالم.
وتورد ماتفييفسكايا في أحد مؤلفاتها أسماء أهم المراجع التـي تطرقت إلى تاريخ الرياضيات في آسيا الوسطى. وهي من جهة تؤكد على أن الرياضيات ليست عربـية وإنما هي رياضيات شعوب آسيا الوسطى منطلقة من الناحية الجغرافية، ومن جهة أخرى تنتقد العلماء الذين لم ينصفوا العرب والمسلمـين ولم يقدروا دورهم في تطويـر العلوم.
مثلاً تنتقد إي. إيلغود الذي اعتبـر العلم فارسياً وليس عربـياً. وتعتـرف بأن معظم المؤرخين يستخدمون مصطلح العلم العربـي أو الرياضيات العربـية أو الثقافة العربـية مثل: ر. لانداو، و ج. لو بون، وأ. مـييله، وج. ريسليـر، و غ. فاتساري، و ن. سوتـر. أما ف. كاجوري –بـرأي ماتفييفسكايا- فلم يعط الرياضيات العربـية حقها وقلل غ. تسيتـين من أهمـية الرياضيات العربـية.
ومن الملاحظ أن معظم مؤرخي الرياضيات العربـية في روسيا يـربطون الرياضيات بكلمة الإسلام أكثـر من كلمة العربـية. فمثلاً يوشكيفيتش كرس فصلاً مهماً من كتابه ” تاريخ الرياضيات في القرون الوسطى” للرياضيات في بلاد الإسلام. وكذلك سمـيت موسوعة ماتفييفسكايا وروزنفلد “علماء الرياضيات والفلك…في بلاد الإسلام”. بـينما في الغرب يستخدمون كلمة رياضيات عربـية أكثـر من رياضيات إسلامـية. وقد تكون لهذه الاختـيارات خلفيات ثقافية وسياسية وإيديولوجية، إلا أن الجمـيع يقصدون بالنتـيجة نفس المجال العلمي وهو الرياضيات المكتوبة باللغة العربـية.
وأشارت ماتفييفسكايا في معرض حديثها عن تأثيـر العلماء العرب في تطور الرياضيات في أوروبا إلى أن التـرجمة من اللغة العربـية إلى اللاتـينـية لعبت دوراً مهماً في تطور العلم في أوروبا وخاصة الرياضيات. فقد ازدهرت المدارس العلمـية في الأندلس في القرن العاشر مثل قرطبة واشبـيلية وغرناطة وأصبحت مراكز ثقافية وعلمـية كبـيـرة بعد فتح المسلمـين لها. وتوافد إلى الأندلس علماء من كل أنحاء أوروبا وبدأ عصر التـرجمة إلى اللاتـينـية (ق.12). وهنا لعبت التجارة دوراً مهماً بـين الشرق وأوروبا وخاصة عبـر صقلية وبـيـزنطة. وساهمت الحملات الصليبـية دوراً في التواصل الثقافي والعلمـي بـين العرب والمسلمـين وبـين أوروبا.