مقالات

رؤية هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية – السلسلة مكوّنة من إثنتي عشرة مقالة “الأزمات النفسية في العصر الحديث” (2)

* الإيمان كوسيلة لعلاج القلق والاكتئاب

الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:

في ظل الاضطرابات النفسية المتزايدة التي يشهدها العصر الحديث، يعاني كثير من الناس من القلق والاكتئاب نتيجة الضغوط الحياتية المتلاحقة، وتغيّر أنماط العيش، وضعف الروابط الاجتماعية، وغياب المعنى العميق للحياة، ورغم تعدد أساليب العلاج النفسي والدوائي، يبقى الإيمان أحد أقوى الوسائل الفعالة في تهدئة النفس وتوفير الطمأنينة والسكينة للإنسان.
1- الإيمان والطمأنينة النفسية
يُعدّ الإيمان مصدرًا أساسيًا للراحة النفسية، حيث يربط الإنسان بقدرة الله تعالى وعدله ورحمته، ويخفف عنه وطأة المخاوف والهموم وضغوطات الحياة، فالقرآن الكريم يوجه الإنسان إلى أن الاطمئنان الحقيقي لا يتحقق إلا بذكر الله، كما قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ (الرعد: 28).
ينبع القلق في الغالب من الخوف من المستقبل، أو الندم على الماضي، أو الشعور بالعجز أمام التحديات، ولكن حينما يدرك الإنسان أن الأمر كله بيد الله، وأن تدبيره للكون قائم على الحكمة والرحمة، فإنه يتحرر من هذه المخاوف ويجد سكينة تسكن روحه.

2- الإيمان يعزز الصبر والتوكل
من العوامل التي تجعل الإيمان علاجًا نفسيًا فعّالًا، أنه يعزز الصبر في مواجهة الابتلاءات، ويمنح الإنسان قدرة على تحمل الصعاب دون أن يسقط في دوامة الاكتئاب، يقول تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ٱلَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌۭ قَالُوٓا۟ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَٰجِعُونَ﴾ (البقرة: 155-156).
كما أن التوكل على الله يغرس في النفس راحة عميقة، لأن الإنسان يدرك أن جهده مطلوب لكنه ليس وحده من يتحكم في النتائج، يقول النبي ﷺ: “لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصًا وتروح بطانًا” (رواه الترمذي).

3- الصلاة والعبادات كعلاج نفسي
تلعب العبادات دورًا أساسيًا في تخفيف الضغوط النفسية، فالصلاة مثلًا تتيح للإنسان لحظات من الهدوء والاتصال المباشر بالله تعالى، مما يساعد على التخلص من التوتر والقلق، وقد وصف النبي ﷺ الصلاة بأنها راحة للنفس حين قال: “أرحنا بها يا بلال” (رواه أحمد وأبو داود).
كما أن الدعاء يمثل متنفسًا للمهموم، حيث يشعر الإنسان بأنه ليس وحيدًا في أزماته، بل هناك من يسمعه ويستجيب له، قال تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ٱدْعُونِىٓ أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ (غافر: 60).

4- الإيمان والعلاقات الاجتماعية
من الجوانب المهمة التي يحققها الإيمان في علاج القلق والاكتئاب أنه يعزز الروابط الاجتماعية، فالمؤمن يدرك قيمة صلة الرحم، والتعاون، والإحسان إلى الآخرين، مما يمنحه شعورًا بالانتماء والمساندة، فالإنسان حين يشعر أنه جزء من مجتمع مترابط ومحب، يقلّ عنده الإحساس بالوحدة والعزلة، وهما من أهم أسباب الاكتئاب في العصر الحديث، يقول النبي ﷺ: “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى” (رواه مسلم).

5- الإيمان يمنح الحياة معنى أعمق
من أهم أسباب الاكتئاب فقدان المعنى في الحياة، والشعور بالفراغ الروحي، لكن الإيمان يمنح الإنسان هدفًا وغاية، ويرسخ لديه مفهوم السعادة الحقيقية، والتي لا ترتبط بالماديات، بل بالقرب من الله والعمل الصالح، يقول تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًۭا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌۭ فَلَنُحْيِيَنَّهُۥ حَيَوٰةًۭ طَيِّبَةًۭ﴾ (النحل: 97).

الخاتمة
الإيمان ليس مجرد معتقد نظري، بل هو أسلوب حياة يمنح الإنسان السكينة والرضا، ويحميه من القلق والاكتئاب، وعندما يدرك الإنسان أن لكل شيء حكمة، وأن الله رحيم بعباده، فإنه يواجه الحياة بثبات نفسي وقلب مطمئن، بعيدًا عن اضطرابات العصر وضغوطه المتزايدة.

• عنوان مقالتنا القادم بمشيئة الله تعالى: كيف يواجه المسلم الأزمات النفسية بروح إيمانية؟

* طاب صباحكم، ونهاركم، وجميع أوقاتكم، ونسأله تعالى أن يحفظ مجتمعنا، وأن يُبرِم لهذه الأمة إبرام رشد.
* مقالة رقم: (1856)
29. رجب . 1446هـ
الأربعاء .29.01.2025 م
باحترام:
د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق