مقالات
وتسمعني وحدك قصة قصيرة / بقلم : لبنى ياسين
هذه القصة كتبتها بعد مجزرة الحولة،وكلما قرأتها في أمسية خنقتني الدمعة وتجرح صوتي، انشرها اليوم بمناسبة قتل مرتكبها شجاع العلي..عليه لعنة الله والأمهات.
إلى أطفال الحولة، دون أن نطلب سماحا لا نستحقه
وكانتْ الأحزانُ تنبعثُ منكَ وفيكَ، وكانَ آخرُ ما صمَمْتُ عنهُ أذني صوتكَ تستغيث، وأنا عاجزةٌ عن الاقتراب، وعن الابتعاد، عاجزةٌ عن فعلِ أي شيء، مجرد شاهدٍ أخرسَ..على جريمةِ أمة بكاملها.
عدْ ..عدْ ولن أتذمر من تدريسك، ولا منْ مشاكساتكَ التي لا تنتهي، سأترككَ تفرحُ بانتصاراتكَ الصغيرة عليّ بعد كل مقلبٍ تحضرهُ لي وأقعُ فيه بسذاجةٍ مفرطة كما هي عادتي، وتضحكُ ويضحكُ رفاقك عليَّ، وأشتعلُ غضباً منك، لن أقرصكَ خلسةً عن عيونِ أمي، سألفُّ لكَ عروسَ الزيتِ والزعتر كما تحبها، زيت قليل وزعتر كثير، ولن أقلِّل كمية الزعتر لأردَّ لكَ مقالبكَ التي انتهتْ بانتهائك، وأجعلكَ تغصُّ بكل لقمةٍ تزدردها وأنتَ في باحة المدرسة.
عدْ ولا تصدقْ أمنياتي الكاذبة بأن أتخلصَ منك، ومن صوتكَ، ومن شيطنتك، صدقني لم أتقصَّد الدعاءَ صباحَ ذلك اليوم بأنْ يخلصني الله منكَ، ويريحني من الركض وراءك جلّ يومي، ولم أكنْ أعني ما قلته عندما أخبرتكَ بأنكَ تحرمني اللعب مع صديقاتي بسببِ مشاكلكَ، كنتُ غضبى فقط، وعند الغضب عادة نقولُ ما لا نعنيه.
أمام جثتكَ توقفَ الزمنُ والصوتُ والهواء، تجمَّد الماءُ حتى في العيون، غصَّتِ السحبُ ولمْ تمطر، انحنى الجبلُ ولم يعدْ شامخاً كما كان، حتى الورود نكستْ رأسها حزناً، ثمةَ سكون مقدس اعتلى أطراف الأرض، أنت وأصدقائك النائمين إلى جوارك بدعة، والدم الطازج ينشرُ فضائحَ الفجيعةِ إلى كل اتجاهات الكون بصوتٍ يهدُّ حيل الصخر، صوتكَ غائب في الظلام، تلاشى في رقبةٍ رفيعة جزَّها الجزار وراح في حال سبيله، صوتكَ ضاعَ على حوافِ الحبال الصوتية المقطوعة، ولم يعدْ ثمة شيء يذكرُ هنا إلا يتمي وأنا أقفُ إلى جواركَ دونَ صوت.
أنظرُ إليك، فأرى عيوناً تحدق في الفراغ، أصرخُ بك: قمْ ولتملأ الكونَ ضجيجاً، لن أتذمرْ، لترمني بالحصى، لتشكوني إلى أمي، لترمي الأشياء على الأرض وألمُّها وراءك، لتدخلْ بحذائك المتسخ، فتجبرني على مسحِ الأرض ثانية..لا أبالي..فقط عدْ.
لا تسمعني، ولا أسمعني أنا أيضاً، لا تتحركْ، كل شيء جامد مكانه إلا قلبي، قلبي الذي يسبحُ في بركان من وجع وحقد، سأقتله..أقسمُ أن أقتله هذا الذي حزَّ رقبتكَ بسكينه، سأقتلهُ بسكينه ذاتها، يراودني سؤالٌ حزين، وأنا أتذكرُ آخر ما كنتُ أدرسه وقد اقتربَ الامتحان، قبيل المذبحة بدقائقَ فقط كنت أراجعُ درسَ الدين، كان عنوان الدرس الأضحية، أحكام الأضحية، قالت معلمتي إن الجزار يجب أن يسنَّ سكينه جيداً لئلا تتألم الضحية، هل سنَّ جزاركَ سكينه جيداً قبل أن يذبحك يا أخي؟ قالتْ أيضاً عليه أن يذكرَ اسم الله قبل أن يبدأ بالذبح، هل ذكر اسم الله؟ أظن أن الشيطان نفسه كان يمسكُ السكين، وهو شخصياً من ارتكبَ تلكَ الجرائم كلها، ولا يمكنُ أنْ يذكرَ اسم الله شيطان.
وماذا عني؟ لماذا بقيتُ أنا ومتَّ أنت وأمي وأبي؟ لماذا ذهبتم وتركتموني هنا وحيدة؟ هل ادُّخرت لمذبحة أخرى؟ هل يسنون سكاكينهم من أجل عنقي؟
كنت وصويحباتي نلهو عندما لمحناهم من بعيد، كانوا قد بدؤوا طقوس الذبح، يذبحونكم واحداً تلو الآخر، ويكومون جثثكم بجانب بعضها البعض، تدورتْ عيوننا جميعاً، وغابَ النبض من قلوبنا، اعترانا غضبٌ وخوفٌ لا حدَّ لهما، أردتُ أن أصرخ أنْ دعوا أخي، فلم يطعني صوتي، اختفى هكذا دونَ أثرٍ، حاولتُ الصراخَ مرة تلو المرة دون جدوى، أعرفُ أنكَ لن تسامحني وأنا أعترفُ لكَ بأنني لم أستطعْ حمايتك منهم، تلك كانتْ مسؤولية حملتني إياها أمي منذُ ولدتَ، رغمَ أني لا أكبركَ إلا بسنين أربع.
خفتُ يا أخي..ارتعشتُ خوفاً، واصطكتْ ركبتاي كما لا تتصور، همستْ ماسة: فلنختبئ لئلا نُذبح، لم أفكرْ، كانَ الشللُ يعتريني من الرأسِ حتى الأقدام، ولولا أنْ جرَّتني نوالُ جراً ما غادرتُ مكاني، ولكانتْ جثتي إلى جوار جثتك..ليتها ما فعلتْ.
هل أخبرتكَ بأنَّ علياء بللتْ ثوبها من شدةِ الخوف، كانتْ تمشي ويعتريها الخجلُ من ثوبها المبلل، وكنا نحيطُ بها لئلا ينتبهَ إلى بللها المخجلِ أحدٌ ما فيعيرها به، أي حمقٍ اعترانا؟ من الذي سوفَ يأبهُ لثوبها المبلل، والبلل قد اعترى وجه الأرض فاحمرتْ خجلاً من جثثٍ صغيرة الأطراف، ومن سينتبه إلى اصفرار ثوبها..عندما يكون اللون الطاغي أحمرَ برائحة الدم.
هربنا إلى بيتِ خالتي أم سليمان، وفي عليَّتها تكومتْ أجسادٌ أربعة، جلسنا إلى جوارِ بعضنا، كنا نبكي جميعاً، وحدي كان بكائي صامتاً، أما علياء فكانتْ تلطمُ خديها حزناً على أخويها الصغار، وعندما نظرتُ في عينيها خفتُ أكثر، كانَ في عينيها حقدٌ وغضبٌ ويتم يعجزُ الكون عن احتوائها.
مروا بالقربِ منا ولم يرونا، لكنهم صادفوا غيرنا، وكما فعلوا بأخوتنا، ذبحوهم من الوريد إلى الوريد، وكوموا الجثث بجانب بعضها البعض، شهادة يتمٍ وقعتها يدٌ غادرة، يدٌ ستجدُ يوماً منْ تقطعها بنفس السكين.
جثمانكَ يعذبني يا أخي، يبرزُ لي في نومي، يرمقني غاضباً، يعاتبني لأنني تركته، وما الذي كان بيدي ولم أفعله؟ هل تعتقد أنه كان بوسعي أن أحميك منهم، أن أوقفهم، أن أنتشل سكينهم وأزرعها في عيونهم الظامئة للدم؟ نعم أنت تعتقد ذلك.
أذكرُ مرةً منذُ سنة مضتْ، عندما قرَّعتك معلمتك لأنكَ مزقتَ كتابك، وضربتكَ على يدكَ، صرختَ بها أمام أترابكَ، وقلتَ لها سأخبرُ أختي أماني لتضربكِ غداً، وفي يومِ الغد، أخبرتكَ أنني قد ذهبت إليها وضربتها، وصدقتني، حسناً يا أخي: سأخبركَ بسرٍ أخير: عندما أخبرتكَ بأنني ضربتُ معلمتكَ عقوبةً لها على ضربها إياك ..كنتُ أكذب، أنا لم أذهبْ إليها ولم أضربها، هي معلمة، وأنا مجرد طفلة تكبرك بسنين أربع، لم أردْ أن أكذبَ عليك، لكنني لم أستطعْ أنْ أخذلَ استجارتكَ بي، وذلك الايمان المطلق في قلبكَ الصغير بأن أختكَ “أماني” تستطيعُ أن تفعلَ كل شيء.
منذ رحيلكَ يا أخي، والطبيبةُ تمر كل يوم، تفحصني، تمر بيدها على حلقي، أريدُ أن أخبرها بأن عنقي بخير، فانظري إلى عنق أخي، لكنني أعدل عن الحديث وأنا أسمعها تقول أنني فقدتُ النطق، أنا لم أفقدُ النطق يا أخي، الطبيبة كاذبة، أنا أكلمكَ في اليوم ألف مرة، وأعلمُ أنكَ تسمعني، أزورُ قبركَ كل يوم، , أعتذرُ إليكَ عن خذلاني إياك، أعتذرُ أنني لم أستطعْ حمايتك، أدعو الله ألا يستجيبَ دعائي عندما أكونُ غاضبة، وأضعُ بعضَ زهور الياسمين التي كنتَ تقطفها لي، وتصنعُ منها عقداً تهديني إياه، أضعُها فوق قبركَ، وأطلبُ منك أنْ تسامحني، أعلمُ أنكَ تسمعني، أعلمُ أيضاً أنني لم أفقد النطق قط، لكن العالم فقدَ سمعه بعد رحيلكَ يا أخي.