مقالات
النقد والتطهير، اكسجين العقل والتغيير (التاريخ يحدث في زمانه ومكانه ولا يتكرر لا مرة ولا مرتين)
قاسم عبد المهابشي
في الثقافات التي لا تشجع النقد والتنوع والتغيير والاختلاف تتراكم فيها العادات والمعتقدات فيما يشبه البركة الآنسة مرتع الجراثيم والحشرات والعقارب والحيات. وهذا هو ما يفسر ديمومة الخرافات والأوهام والخزعبلات في حياة المجتمعات العربية الراهنة. والنقد والتطهير والتغير جوهر التاريخ بوصفه زمانًا يمضي في ثلاثة أبعاد هي الماضي والحاضر والمستقبل، في كل آن من الأوان فما كان قد ذهب إلى الأبد ويستحيل إعادتها والمستقبل هو ما لم يوجد بعد، والحاضر فقط هو الذي نعيشه هنا والآن حياة فورية مباشرة ولكنها بلا مزايا أقصد تلك الحياة التي نمنحها تسعة أعشار وقتنا، الذي نعيشه في عالمنا الواقعي المعيشي الحي الفوري، بلا ماض ولا مستقبل، عالم اللحظة الحاضرة الراهنة المباشرة، عالم الحياة، وتدفقها بـ ملموسيتها وكليتها، أي الحياة اليومية البسيطة المملوءة بالانشغالات الروتينية، والمتطلبات المعيشية الملحَّة الصغيرة، والروتينية، التي تستغرق الكائن الاجتماعي الساعي إلى إشباع حاجاته بمختلف الوسائل والسبل والحيل، والتقنيات، والعادات والتقاليد، والأساليب والصراعات، والرهانات والتفاعلات، والنجاحات والإخفاقات، والمكاسب، وكل أنماط العلاقات والممارسات اليومية، التي ننهمك فيها وتشكِّل فعلاً عصب الجسد الاجتماعي برمَّته، أي الحياة بلا مزايا، التي يسمِّيها عالم الاجتماع جلبر دوران بـ «الجو الخانق» تلك اللحظة الحاضرة سيالة ولا يمكن إيقافها، وبقدر ما نعيشها في كامل امتلاءها يكون لها معنى أما إذا تركتناها تمر بالعجز والكسل والخذلان فلا يمكن أن تنجب الثمار في قادم الأيام وهذا هو معنى التاريخ عن كورتشيه.أنه حاضرًا مستمرًا يشكلنا ونشكله في حدود الممكنات المعطاه لنا سلفًا من الماضي، وتلك الممكنات أما أن تكبلنا بثقلها التاريخي أو تحفزنا وتمدنا بالطاقة والدافعية لتجاوزها باتجاه المستقبل. إذ إن التاريخ كله مغامرة إنسانية تصيب حيانا وتخيب معظم الأحيان والتاريخ الإنساني نوعي وحوادثه نوعية ولا يتكرر أبداً لا مرة ولا مرتين حتى وأن بدىء أنه يكرر الأحداث ذاتها بذات الهيئات والأشكال والكلمات وفي ذات المكان من الناحية الشكلية البحتة طبعا ذلك لان الزمان غير الزمان والنَّاس غير الناس إذ هم في كل مرة مختلفون عن من سبقوهم من الأجيال وكل جيل من البشر يعيش حاضره الفوري المباشر ويستحيل ان يعيش حاضر من سبقوه وهكذا يمكن القول أن التاريخ حاضر مستمر بحسب كروتشه! ولو ان التاريخ يمكن ايقافه في إي لحظة من لحظاته لما كان للحضارة الإنسانية أن تخطو خطوة واحدة إلى الإمام بعد آدم وحواء وهابيل وقابيل أو جلجامش وانكيدو أو بعد هامان وقارون أو بعد فرعون أو بعد نيرون الروماني أو بعد هولاكو التتري أو بعد مروان أبن الحكم ولله في خلقه شؤون ! أنه لا يعود أبدًا إذ هو صيرورة مستمرة في الزمان والمكان فأمس غير اليوم وغدًا غير الأمس، وحوادث الزمان والناس هي جديدة وفريدة ونوعية في كل زمان ومكان. ونحن نعيش التاريخ كما تعيش الأسماك بالماء وليس بمقدورنا الخروج منه أو مغالطة استحقاقاته الفورية المباشرة فأما أن نستجيب إلى تحدياتها ونتدبر أمرنا في كيفية تجاوزها وأما سحقتنا بعجلاتها وتجاوزتنا. ولا شيء يأتي إلى التاريخ من خارجه ولا شيء يخرج منه. التاريخ هو التاريخ يمضي إلى سبيله من الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل وليس بمقدور أحد إيقافه. أنه الذي يكسر رؤوس البشر ولا يتكسر رأسه أبدًا. فهل أدركنا ماذا يعني العيش في التاريخ وكيف يمكن تدبير حياتنا فيه ولا خيارات بديلة من ذلك. وتكريم الأسلاف لا يعني النوح على شواهد قبورهم ولا التوقف عن زمانهم ولا الاحتفاظ برماد قبورهم بل يعني ويجب أن يكون استئنافًا جديدا للفعل التاريخي بما يجعل الشمعة التي اوقدوها ذات يوم متوهجة باستمرار. وكل جيل من الأجيال معنى بتدبير العيش في حاضره هو لا ماضي اسلافه ومواجهة تحديات حاضره هو في ظل المعطيات والشروط والممكنات المتاحة في اللحظة الراهنة والمستقبل هو أمام الناس لا ورائهم. ولابديل للناس ان ارادوا العيش بشيء من الرشد والسداد لابديل لهم من النقد نقد ذواتهم ، نقد الذات الفردية والجمعية نقد تاريخ الذات ونقد المجتمع ونقد الحياة ونقد كل شيء يتصل بحياتهم على هذه الكوكب الدوار ،وعلى من يريد العيش بثقة وأمان أن يشرّع كل النوافذ والأبواب للنقد كما يشرّعها للهواء الطلق ، فمن هو ذا الذي يستطيع الجزم بانه لا يحتاج الى النقد كما يحتاج الى الاكسجين ؟! غير أن ثمة فرق بين النقد بغرض الاصلاح والبناء والنقد بنية الهدم والتشفي ، وكم هي حاجتنا ماسة الى ثقافة النقد الصحي السليم ؟