مكتبة الأدب العربي و العالمي

حكاية صاحبة الثّوب الخشبي من الفولكلور الفلسطيني في بحيرة البطّ ( الحلقة 2 والأخيرة )

احمد حميدي

قطعت الفتاة مسافة طويلة ، حتى غادرت الغابة الممتدة الأطراف، وفي الأخير وجدت نفسها قرب بحيرة ،وفي طرفها قصر ،فبقيت تدور حتى رأت بستانيا عجوزا ،فسرقت منه قطعة قماش لفتها على رأسها كالعمامة ،ثم سألته بصوت خشن :لمن هذا المكان ؟ فأجابها :للسلطان وهو يجيئ إلى هنا مع أهله للإستجمام ،قالت له بأنها تبحث عن عمل ومأوى وستكون سعيدة لو توسّط لها عند سيده ،فأجابها :والله لا يوجد عندنا سوى رعاية البط ،وقد مات الذي كان يعتني به منذ يومين ، اسمع ،هذا الشغل مكتوب لك ،حكى البستاني للسلطان عن ذلك الولد الغريب فوافق على تشغيله وأطلقوا عليه إسم خشيشبان بسبب ثوبه ،في الصّباح أخرجت الفتاة البط للبحيرة ،وتركته يأكل ويسبح ،ثم نزعت ثوبها، وارتمت في الماء البارد بعد كل هذا التّعب، ولما رأى البطّ جمال جسمها غنّى :

كاك ..كاك
سبحان خالق الأفلاك
من جمال الشّمس أعطاك
ومن ظلمة اللّيل
جعل لون عيناك
تحس قلوبنا بالحبّ
كلّما رأيناك

ثم بدأ البيض ينزل منه كالمطر ،وفي المساء لما عادت بالبط للقنّ كان معها سلال كثيرة من البيض ،وتواصل ذلك لعدة أيام متواصلة ،حتى تعجّب كل من في القصر لكثرة البيض ،وأصرّ الأمير أن يعلم السّر ،فاستيقظ باكرا في الصباح ،وصعد فوق شجرة عالية وبقي هناك ينتظر ،وبعد قليل رأى خشيشبان يخلع ثوبه، وينزل إلى الماء ،واكتشف أنه فتاة كالقمر،فبقي يتأمّل فيها وهي تسبح، والبط حولها منبهر بحسنها ،ثم أخذت مرهما من الزّهور تعطرت به بعد ذلك لبست ثوبها الخشبي ،وقطفت عشبة غلّتها في الماء ،وجلست تترشّف كأسها ببطء،قال الأمير في نفسه :ترى لماذا تتخفّى تلك الفتاة رغم شدة جمالها وحذقها بالنّبات ؟ ولمّا حاول النّزول من الشّجرة وقع على الأرض ،وإنكسرت ساقه ،فحمله الخدم للقصر، وأتاه أبوه السلطان بطبيب فجبّر ساقه، وسقاه دواءا ثم أوصاه أن ينام على ظهره ،وأن لا يتحرّك لمدة شهر.
وصارت أمّه تبكي عليه ،فقال لها:كفّي عن البكاء، سأكون أحسن حالا لو طلبت من الخادم خشيشبان أن يطبخ لي شوربة بأعشاب الغابة ،ويأتيني بصحفة !!! مسحت الأمّ دموعها ،وقالت له :حسنا ،ثمّ نادت لخشيشبان وقالت له: أترك البط ،وتعال لطبخ شوربة للأمير ،فقد بلغني أنّك عالم بالنّبات ،عرفت الفتاة أن الأمير قد رآها، وحاولت أن تتملّص ،واعتذرت بأنّها لا تفهم شيئا في العقاقير ،لكنّ الملكة رمقتها بنظرة شديدة، فلم تجد الفتاة بدّا من الإذعان ،وجمعت بعض الجذور ،وطبختها ،فصعد من القدر رائحة فوّاحة ،ثمّ ملأت صحفة ،وصعدت بها الدّرج، وفي كلّ خطوة كانت ترتعش ،فماذا لو فضح أمرها لدى أبيه السلطان ؟ كانت غارقة في أفكارها حين وصلت أمام باب غرفة الأمير ،ووقفت قليلا لتستجمع شجاعتها ،ثمّ دخلت ،وهي تخفي وجهها ،وبسرعة وضعت الصّحفة على الطاولة ،وحاولت الخروج، لكن الأمير أمسك بيدها ،وقال لها: لا تخافي ،فأنا أعلم من أنت ،لقد أحببتك من النظرة الأولى ،ولست بحاجة إلى ثوب الخشب فأنت تشبهين شجرة بلوّط، وربّما جاءت الطيور، وبنت عشّا في رأسك .
ضحكت الفتاة بسعادة ،وأجابته :تناول صحفتك، وسأحضر لك من الشوربة كلّ يوم حتى تشفى ساقك ،ثمّ إدّعى الأمير أنّ يده أيضا تألمه ،فلم تجد غسق بدّا من أن تطعمه بنفسها ،وحكت له عن قصّتها ،ولماذا تلبس ذلك الثوب العجيب ،وتتخفّى عن الأنظار ،فأجابها :من اليوم ستعيشين في القصر ،وسأرسل الصّيادين والكلاب للتّخلص من الغول نتشان ،وإحضار حاجيات أمّك التي تركتها في الغابة ،والآن ستقودك الجواري للحمّام ويحضرن لك فستانا من الحرير ،أمّا أنا فسأنام قليلا ،وفي المساء نهض الأمير وهو يحسّ بالنّشاط يدبّ في جسده ،وقد غابت الأوجاع التي في ساقه ،فلبس ثيابه وتعطّر، ثم أخذ يعرج ،وهو يبحث عن غسق حتى وجدها جالسة مع الجواري وهنّ يجمّلنها فلمّا رآها تعجّب لشدة حسنها ،فأخذ بيدها ،ونزل الدّرج الطويل دون أن يرفع نظره عنها .
ولمّا وصل لصالة القصر الواسعة حيث تعزف الموسيقى، إلتفت الحضور للأمير،وابتهجوا لتحسّن حالته ،لكن الملكة تساءلت من أين أتت تلك الفتاة الجميلة التي برفقة ولدها ؟ و حكى لها الأمير القصة ،فضحكت ،وقالت : سأزوجك من خشيشبان ،وهكذا تتوقّف عن الطلوع في الأشجار وإستراق النظر للبنات ،ولمّا شفيت ساقه عملت له عرسا لم يحصل بزمانه، واستدعت أباها ،ولكنّها منعته من إحضار إمرأته ،ووجد عساكر السّلطان الغول نتشان وقتلوه ،وأتوها بحاجيات أمّها التي تركتها في الغابة ، وعاشت غسق بفرح وحبور، أما ثوب الخشب فلقد أخفته ،وهي تريد أن تروي قصّته العجيبه لأولادها وأحفادها ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق