مقالات

حرية / رياض الصالح

كم حدثتك يا صديقي عن الحرية كيفما أراها .. وكم خضنا أمواجاً أثيرية عاتية ونحن نتبحَّرُ في فهم مطالب ذواتنا وحقوق نفوسنا واحتياجات أرواحنا للوصول إلى مرافيء الحياة التي شيّدتها أحلامُنا الإنسانيّة الخضراء ..
كنتُ أذكّرُكَ دوماً بأن دماغي عصيٌّ على فهم الأمور بالطريقة الدارجة .. وأنّ روحي متمردة على القواعد السائدة.. يقبع في مخيلتي تصوراتٌ مختلفة للصورة العامة.. مما يؤدي لإدراكٍ ذاتيٍّ للأمور مختلفٍ ومُغايرٍ للعقل الجمعي في شتى نواحي الحياة..
قلت لك أن التمثيلَ أثناء صحبتي لن يُجدي أداؤهُ نفعاً.. سرعان ما يكتشف الوضوح الذي أمارسه بطبعي ضعف القوة الزائفة الرامية إلى إثارة إعجابي فقط .. كنتَ لا تستوعب أنني لست صناعة مؤثرات إعلامية .. ولستُ أُخضعُ عقلي ليقبع في سجن تصنيف فئوي معين كما هو حال البشر اليوم الذين تستطيع إدراك ماهيتهم بسؤال واحد .. قل لي أي قناة تشاهد؟ وأي مقاطع ” تك توكية ” تتابع.. أقل لك من أنت .. لذا لن تدركني إلا بتجربتي .. ومحاولة مجاراتي ..
عندما صحبتني .. أصبحنا يا صديق ونحن في طريقنا للحرية كريشةٍ خفيفةٍ راقصة .. تقاوم تأثير رياحٍ جماعية عاتية موجهة .. فصرنا نهيم في أحلامنا متفردّين .. تدفعنا وتشعلنا إرادتنا الذاتية .. حتى وإن كنا نجهل المكان الذي نتوجه نحوه .. لا يهمنا إلا حرية الخيار .. نتعلم كيف نركب الرياح ونقودها .. كريشةٍ تسوقُ ولا تُساق
أعترف بأني قد أثقلت كاهلك بما لا تطيق .. كنت أودّ أن تنشد روحك بالطريقة التي ترغبها .. حاولت إيقاظ عقلك الخامل .. وتحريرك من سيطرة التأثيرات .. حذرتك مراراً أن أسماك الماء لن تعيش في الهواء الطلق .. لكنك أكدت لي أنك طيرٌ مثلي تفلت من عقال قفصه وأنك لا تنتمي للماء .. وكنت أتغافل عن فقاعة ضخمة تصنعها بحذر وتدرّج .. ثم تملؤها من مطر السحاب كلما ارتفعنا .. لتسبح فيها .. فلماذا صحبتني وأنت تخشى المرتفعات! ..
كل الأشياء تعود لأصولها بعدما يعرّيها الزمن يا عزيزي .. حتى المسرحيات الطويلة لها وقت وتنتهي .. ثم يعود الممثلون إلى هيئتهم الطبيعية وحياتهم الاعتيادية .. كذلك تنفَضُّ الجماهير .. وينقطع التصفيق .. ويعم الظلام عتبة المسرح ..
منذ مدة طويلة وأنا مقتنع بأن البشر لا يتغيرون للأفضل .. إنما يُجبَرون على مجاملة ظروفهم الخاصة بالتكيّف والتأقلم .. فيظهرون بأزيائهم الجديدة المتوافقة مع طبيعة الظرف فقط .. لكنهم يخلعونها بالكامل إن قطعت بهم الظروف وعودها بالديمومة والتطور .. لذا لا أتعجب إذا انهارت المباديء البشرية على أعتاب صراخ المعذبين .. أو كشفت الطبائع الغريزية عوراتها دون التكلف بالبحث عن ورقة توت ساترة .. سيحصل أدهى من ذلك إذا حكمت الوقائع وتبدلت الظروف وصارت الكرة في ملعب الحاجة الماسة ..
بعد اعتزالك مني يا صديقي .. توقفتُ عن بذل النصائح للآخرين .. وسلمت مهمة التعليم ليد التجربة الشخصية .. فهي بالعادة أجدى وأوعى وأقدر مني على إيصال الرسائل .. كذلك هي طباع البشر .. ولا بد من أخذ طباع البشر بالاعتبار .. عند رسم قواعدنا الحياتية الخاصة ..
أعلم أن لهجتي في عتابك بعد هجرانك يائسة .. لكنك تعلم أني لست شخصاً بائساً .. هي أقرب لليأس الاستشفائي المبشّر بإنجاز واقعي أقرب للتحقق .. فقد يكون في قلب الطاولة إفساد للمنظر العام .. لكن فيه إشارة لتصميمٍ هندسي جديد يبعث من الفوضى .. فلو ذهبت عني بعيداً بلا رجعة .. تزداد قناعتي بأن ما يبعثره فراقك عني .. لا ينتج منه إلا تأكيدٌ على نفسِ تعاليم الحرية .. كما تفهمها نفسي ..

# بقلمي
# رياض الصالح

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق