التقينا ذات مساء بعيد في قارة بعيدة وحملتنا الموسيقى الى مدارج الضوء وطارت بنا الأرض ورقصت وفتحنا اجنحتنا لنسيم الريح . في ذلك المساء تسلّل الحبيب من خلوته الصادحة الى بوابة النغم ولم أسأله ونحن نكبر سويّة عمّا يجعله يعمل ليل ونهار دون ان يتعب . تشرّبت صوته كل صباح وهو يجمع مدن البلاد البعيدة والقريبة لاحتضان العالم في معنى له صورة كالحب بين الواقع والخيال . ثمّة شيء يتزيّا بالبراءة مع ذلك الحالم الجميل .ترك منامه ليلحق بنا . وما على الحالم إلاّ ان يطير .
ما هذا الموت الذي نصب فخاخه بدهاء تام السريّة ؟
إلى أين أخذك ؟
كم التهمنا الحياة ولم نخف من الموت ؟
كم جلسنا في المطارات ننتظر الطائرات لتقلّنا الى جهات مجهولة . وجوازات سفرنا تدخل الاجهزة الاليكترونيّة وتخرج مع إشارة حمراء . معلنة بأننا أشخاص غير مرغوب فيهم . نجلس على المقاعد بانتظار التحقيقات ونصعد الى الطائرة قبل لحظات من إقلاعها .
غداً مطار آخر وتحقيقات أخرى . لم نكن نحصي ساعات الانتظار عندما كان مصطفى يرّش الملح في الكافيتيريا على الطعام بيد ترتجف بهدوء والكل ينهيه عن ذلك وهو لا يمتثل كل شيء كان ينقصه الملح : الصحن الشوكة السكين الملعقة الطبق ثمّ يحتسي كأساً من نبيذ الباعة المتجولّين ثمّ يغرق في صمت كثيف ولا يحب ان يتقاسم خصوصياته مع احد .
كم انت هادىء يا مصطفى وحبيب . خرجت من خيال الحياة الى اسطورة الموت هكذا بدون موسيقى وجوقة منشدين وتركت لنا طيبتك وعفويتك .
كيف رحلت هكذا على غفلة ؟
هل ما زلت هنا ؟
التقينا في الصيف بعمّان على حجارة المدرج الروماني وفي آخر السهرة همست في أذني : سأغيب قليلاً وأعود فانتظرني ؟!
طال الغياب وانتظرتك ولم تعد .
سال دم كثير وفاض عن حاجة الانبياء في الأرض السليبة .
” من أين جاؤا وكرم اللوز سيجه اهلي واهلك بالأشواك والكبد ”
هل سئلت ” الله ” عن الشعب المختار وبِئس هذا الخيار ؟
اتذكر في حديقة الازهر في القاهرة وفي دار الاوبرا وفي مكتبة الاسكندريّة ثم نذهب الى حيّ ” الدُكَّة ” ونسأل عن سيّد درويش .
في بيروت بقاعة الاونيسكو مع محمود درويش و ” أنا يوسف يا ابي ، إخوتي لا يحبونني ” وادعاء الحق العام في قصر العدل للمحاكمة وتبقى :
” بيروت خيمتنا وبيروت نجمتنا ” ونوقد شمعة تحية لأرواح الشهداء .
هل كلّنا شهداء ؟
كلّنا شهداء !
فنجان قهوة في الصباح الباكر ونحن في الطريق الى ” سكيب ” مهندس الصوت في استوديو الشمس بهيوستن .
ثمّ الى سَفَرْ آخر الى صداقة الى تيه في الأقاصي وصولاً الى الصين .
ايقاع سرّي يقودنا الى كينيدي سنتر الى السكالا . البرازيل وكولومبيا وفنزويلا . ولا تنسى ينتظروننا في التشيلي والارجنتين .
الى اوبرا سيدني ونيوزيلاندا ، أوبرا مسقط بعُمان . قاعة الفيلهارموني بباريس . قاعة الالبرت هول بلندن . المغرب تونس الحزائر ليبيا .مهرجانات لبنان من بيت الدين الى جبيل الى البترون الى طرابلس الى بيروت الى عمشيت الى بعلبك .
ايها الحبيب الجميل : كم رحلة ورائحة سنتذكّر في حقائبنا .
اشتاق الى حيرتك الى الاختلاف والائتلاف .
فتعال نكمل الجملة الموسيقيّة في جداريّة الحياة ويفرحك أن تعرف بأنني أنهيت العمل المضني فيها منذ الصيف الماضي .
تعال نشرب فنجان قهوة آخر واجمع الرسائل الالكترونية الآتية من كل حدب وصوب واقرئها على عجل فلنا موعد بعد قليل بعد اسبوع بعد شهر بعد حين مع اوركسترا مونتريال بروكسيل كييف رومانيا اسطنبول البلاد الاسكندينافية .
لا وقت يكفي لننظر الى مقاعد القاعات التي تركناها خلفنا ونذهب الى عشّاق آخرين ينتظروننا .
لعلّ الموسيقى روح تتجلّى بالسماع في هذا الزحام الممتد بين البداية والنهاية .
جملة موسيقيّة تشق طريقها في مجرى عصا المايسترو جنيناً يتكوّن ويكوّن ملامح صوت ووعد في كل اصقاع الارض . كانت في حاجة لتأخذها الى المدى الأقصى .
مصطفى أنت حيّ . وستعود بعد حين لنحتفل سويّة بالجداريّة
ننتظرك في آذار الجديد .
فتعال …