انشغل الناس في عهد المعتصم بالأحداث الكبرى التي وقعت في الدولة الإسلامية مثل ثورة بابك الخرمي، واعتداء الدولة البيزنطية على حدود الدولة الإسلامية في الشما، وبناء المدن الجديدة.
وبالتالي لم ينشغل المعتصم بفتنة القول بخلق القرآن التي أثارها المعتزلة في أواخر عهد أخيه المأمون إلا في بداية عهده بسبب وصية المأمون له بذلك.
فلما وقعت الأحداث الجسام انشغل عنها بالجهاد ضد أعداء الإسلام، لذلك عفا الإمام أحمد بن حنبل عن المعتصم وتجاوز عن ضربه وسجنه إياه كما هو معروف تاريخياً.
فلما جاء الواثق بالله بن المعتصم بالله ورث ملكاً ثابتاً واستقراراً عن أبيه جعله يلتفت إلى كلام المعتزلة بوجوب حمل الناس على القول بخلق القرآن.
فكان الواثق من أشد الناس في القول بخلق القرآن، يدعو إليه ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً، اعتماداً على ما كان عليه أبوه قبله وعمه المأمون، من غير دليل ولا برهان ولا حجة ولا بيان ولا سنة ولا قرآن. وبلغ درجة عظيمة من الغلو في هذا الباب تمثلت في عدة إجراءات قام بها من أبرزها:
تعيين كل قضاة الدولة من المعتزلة وخلع أي قاضٍ يقول بأن القرآن كلام الله.
إلزام المدرسين والمعلمين في الكتاتيب بتلقين الطلبة والأطفال عقيدة المعتزلة.
اختيار الولاة وموظفي الدولة من محتسبين وأئمة ومؤذنين للتأكد من قولهم بخلق القرآن.
قطع الأرزاق والتضييق على كل العلماء الرافضين للقول بخلق القرآن ومنعهم من التدريس والتحديث، حتى إن الإمام أحمد بن حنبل قد اضطر للاختفاء في عهده المشئوم.
وصل الغلو لدرجة لا تصدق باختبار أسرى المسلمين لدى الروم، فمن قال منهم بخلق القرآن فكوا أسره ودفعوا ديته، ومن رفض تركوه أسيراً لدى الروم.
ولما بلغ الواثق هذا الشطط من القول بخلق القرآن وأصبح المسلمون على شفا هلكة وضياع في أعز ما يملكون؛ عقيدتهم ودينهم.
انتصب الإمام أحمد لمواجهته، فصدع بالحق، وأعلن رفضه لإجراءات الواثق وشططه وعتوه، فوجد الناس فيه ضالتهم، واجتمعوا عليه بأعداد كبيرة يصغون إلى كلامه ويأتمرون بأوامره.
وهنا تكرر نفس المشهد الذي حدث مع أبيه نصر بن مالك عندما بايعه أهل بغداد سنة 201 هـ بعد خلو بغداد من حاكم وانتشار المفسدين والمجرمين.
فقد اجتمع أهل بغداد على الإمام أحمد بن نصر وبايعوه على الأمر بن المعروف والنهي عن المنكر. وكان من رؤساء أصحابه رجلان؛ أبو هارون السراج في الجانب الشرقي من المدينة، وطالب في الجانب الغربي من المدينة.
وكانا من أنشط وأخلص أتباع الإمام أحمد، فاجتهدا في الدعوة إلى بيعته والانتظام في جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
مع الوقت انتظم عدة آلاف من أهل الحديث وأهل بغداد في بيعة الإمام أحمد بن نصر الخاصة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتصدي لفتنة القول بخلق القرآن.
وكان رؤوس أصحاب الإمام أحمد يجتمعون عنده بانتظام مما لفت الانتباه لدى شرطة بغداد التي دست على مجلس الإمام أحمد من ينقل لها الأخبار..
وكان الإمام أحمد شديداً في الحق ولا يخاف من سلطان ولا طغيان، فكان يشتد في انتقاد الخليفة الواثق ويصفه بعبارات شديدة، فتم رفع الأمر إلى إسحاق بن إبراهيم رئيس شرطة بغداد الذي أسرع بإبلاغ الواثق، فأمر بالقبض على الإمام أحمد ورؤوس أصحابه.
تم إحضار الإمام أحمد مقيداً بأرطال الحديد إلى مجلس الواثق الذي عقده في مدينة سامرا خشية تفارط الحال وثورة أهل بغداد لو علموا بمآل الإمام أحمد..
وكان كما قلنا قد بايعه ألوف منهم، وقد استدعي الواثق رؤوس المعتزلة وأئمتهم؛ لاستفتائهم فيما يفعله مع الإمام.
فلما أُحضر الإمام أحمد أمام الواثق، لم يتوجه إليه بسؤال عن سبب إحضاره ولا قصة البيعة الخاصة، ولكن دار بينهما هذا الحوار العجيب:
وقال الواثق: ما تقول في القرآن؟
فقال الإمام: هو كلام الله.
قال الواثق: أمخلوق هو؟
قال الإمام: هو كلام الله.
وكان الإمام أحمد بن نصر قد استقتل وباع نفسه وحضر وقد تحنط وتنور وشد على عورته ما يسترها فقال له: فما تقول في ربك، أتراه يوم القيامة؟
فقال: “يا أمير المؤمنين! قد جاء القرآن والأخبار بذلك، قال الله –تعالى-: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ *إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ”إنكم ترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته “. فنحن على الخبر.
وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: “يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك”.
فقال له إسحاق بن إبراهيم: ويحك ! انظر ما تقول.
فقال: أنت أمرتني بذلك.
فأشفق إسحاق من ذلك وقال: أنا أمرتك؟
قال: نعم ! أنت أمرتني أن أنصح له.
فقال الواثق لمن حوله: ما تقولون فيه؟
فأكثروا، فقال عبد الرحمن بن إسحاق – وكان قاضياً على الجانب الغربيّ -وكان حاضراً وكان أحمد بن نصر ودّاً له من قبل:
يا أمير المؤمنين؛ هو حلال الدّم.
وقال أبو عبد اللّه الأرمّني صاحب رأس المحنة أحمد بن أبي دؤاد:
اسقني دمه يا أمير المؤمنين.
فقال الواثق: القتل يأتي على ما تريد.
وقال أحمد بن أبي دؤاد:
يا أمير المؤمنين كافر يستتاب؛ لعلّ به عاهة أو تغيّر عقل – متظاهراً بكراهية قتله.
فقال الواثق: إذا رأيتموني قد قمت إليه، فلا يقومنّ أحد معي، فإني أحتسب خطاي إليه. ودعا بالصمصامة – سيف عمرو بن معد يكرب الزبيدي – فأخذ الواثق الصمصامة فمشى إليه وهو في وسط الدار، ودعا بنطع فصير في وسطه، وحبل فشد رأسه، ومد الحبل، فضربه الواثق ضربة، فوقعت على حبل العاتق ثم ضربه أخرى على رأسه، ثم انتضى سيما الدمشقي سيفه، فضرب عنقه وحز رأسه.
وقد ذكر أن بغا الشرابي ضربه ضربة أخرى، وطعنه الواثق بطرف الصمصامة في بطنه، فحمل معترضاً حتى أتى به الحظيرة التي فيها بابك، فصلب فيها وفي رجله زوج قيود، وعليه سراويل وقميص.
وحمل رأسه إلى بغداد فصلب في الجانب الشرقي أياماً وفي الجانب الغربي أياماً.
ثم حول إلى الشرق؛ وحظر على الرأس حظيرة، وضرب عليه فسطاط، وأقيم عليه الحرس، وعرف ذلك الموضع برأس أحمد بن نصر.
وكتب في أذنه رقعة: هذا رأس الكافر المشرك الضال؛ وهو أحمد بن نصر بن مالك؛ ممن قتله الله على يدي عبد الله هارون الإمام الواثق بالله أمير المؤمنين، بعد أن أقام عليه الحجة في خلق القرآن وفي التشبيه، وعرض عليه التوبة، ومكنه من الرجوع إلى الحق؛ فأبى إلا المعاندة والتصريح، والحمد لله الذي عجل به إلى ناره وأليم عقابه. وإن أمير المؤمنين سأله عن ذلك؛ فأقر بالتشبيه وتكلم بالكفر، فاستحل بذلك أمير المؤمنين دمه، ولعنه.
بعد مقتل الإمام أحمد على يد الواثق ومن معه بهذه الصورة الانتقامية وقعت له عدة كرامات بلغت من شهرتها حد التواتر بين المؤرخين والمعاصرين.
فقد قال جعفر بن محمد الصائغ: بصرت عيناي وإلا فقئتا وسمعت أذناي وإلا فصمتا أحمد بن نصر الخزاعي حين ضربت عنقه يقول رأسه: لا إله إلا الله.
عن أحمد بن كامل القاضي قال: حمل أحمد بن نصر بن مالك الخزاعي من بغداد إلى سر من رأى، ونصب رأسه ببغداد، على رأس الجسر، وأخبرني أبي أنه رآه، وكان شيخاً أبيض الرأس واللحية، وأخبرني أنه وكل برأسه من يحفظه بعد أن نصب برأس الجسر، وأن الموكل به ذكر أنه يراه بالليل يستدير إلى القبلة بوجهه، فيقرأ سورة يس، بلسان طلق، وأنه لما أخبر بذلك طلب، فخاف على نفسه فهرب.
وعن إبراهيم بن إسماعيل بن خلف قال:
كان أحمد بن نصر خالي، فلما قتل في المحنة، وصلب رأسه، أخبرت أن الرأس يقرأ القرآن.
فمضيت، فبت بقرب من الرأس مشرفاً عليه، وكان عنده رجالة وفرسان يحفظونه، فلما هدأت العيون، سمعت الرأس يقرأ: (الم *أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ)
فاقشعر جلدي، ثم رأيته بعد ذلك في المنام وعليه السندس والإستبرق، وعلى رأسه تاج.
فقلت: ما فعل الله -عز وجل-بك يا أخي؟
قال: غفر لي، وأدخلني الجنة. إلا أني كنت مغموماً ثلاثة أيام. قلت: ولم؟
قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه و سلم-مر بي، فلما بلغ خشبتي، حول وجهه عني. فقلت له بعد ذلك: يا رسول الله، قتلت على الحق أو على الباطل؟
فقال: أنت على الحق، ولكن قتلك رجل من أهل بيتي، فإذا بلغت إليك، أستحيى منك.
ولم يزل رأسه منصوباً من يوم الخميس الثامن والعشرين من شعبان سنة 231هـ إلى بعد عيد الفطر بيوم أو يومين من سنة 237هـ، فجمع بين رأسه وجثته بأمر من الخليفة المتوكل على الله، ودفن بالجانب الشرقي من بغداد بالمقبرة المعروفة بالمالكية في جنازة مهيبة حضرها معظم أهل بغداد.
أما أعظم كرامة أظهرها الله -عز وجل- في محنة الإمام أحمد بن نصر هو ما جرى مع خصومه والمحرضين عليه، ممن زينوا للواثق قتله، واستباحوا دمه، فقد صدق فيهم قول الله -عز وجل-:
(إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْح)
فقد روى أصحاب التاريخ ومنهم ابن كثير والخطيب وغيرهما أن الإمام عبد العزيز الكناني صاحب كتاب (الحيدة) دخل على الخليفة العباسي المتوكل – وكان حسن العقيدة – فجرى ذكر الإمام أحمد بن نصر في ثنايا الكلام، فقال للمتوكل: يا أمير المؤمنين ما رأيت أعجب من أمر الواثق، قتل أحمد بن نصر وكان لسانه يقرأ القرآن إلى أن دفن.
فوجل المتوكل من كلامه وساءه ما سمع في أخيه الواثق، فلما دخل عليه الوزير محمد بن عبد الملك بن الزيات قال له المتوكل: “في قلبي شيء من قتل أحمد بن نصر”.
فقال:” يا أمير المؤمنين أحرقني الله بالنار إن قتله أمير المؤمنين الواثق إلا كافراً”.
ودخل عليه هرثمة بن أشرس (من رؤوس المعتزلة) فقال له في ذلك فقال: “قطعني الله إرباً إرباً إن قتله إلا كافراً”.
ودخل عليه قاضي المحنة أحمد بن أبي دؤاد فقال له مثل ذلك فقال: “ضربني الله بالفالج إن قتله الواثق إلا كافراً”.
فكيف كانت مصارعهم؟
قال المتوكل: فأما ابن الزيات فأنا أحرقته بالنار.
وذكر ابن الأثير نهاية ابن الزيات بالتفصيل فقال:
“لما ولي الخلافة المتوكل أمهل حتى كان صفرًا، فأمر إيتاخ التركي بأخذ ابن الزيات وتعذيبه، فاستحضره فركب يظن أن الخليفة يستدعيه.
فلما حاذى منزل إيتاخ عدلا به إليه، فخاف فأدخله حجرة، ووكل عليه وأرسل إلى منازله من أصحابه من هجم عليها، وأخذ كل ما فيها واستصفى أمواله، وأملاكه في جميع البلاد، وكان شديد الجزع كثير البكاء والفكر.
ثم سوهر وكان ينخس بمسلة لئلا ينام، ثم ترك فنام يومًا وليلة، ثم جعل في تنور عمله هو وعذب به ابن أسماط المصري وأخذ ماله.
فكان من خشب فيه مسامير من حديد أطرافها إلى داخل التنور وتمنع من يكون فيه من الحركة، وكان ضيقًا بحيث إن الإنسان كان يمد يديه إلى فوق رأسه ليقدر على دخوله لضيقه ولا يقدر من يكون فيه يجلس.
فبقي أيامًا فمات، وكان حبسه لسبع خلون من صفر وموته لإحدى عشرة بقيت من ربيع الأول.
واختلف في سبب موته فقيل كما ذكرناه، وقيل: “بل ضرب فمات وهو يضرب، وقيل:
“مات بغير ضرب وهو أصح، فلما مات حضره ابناه سليمان وعبيد الله، وكانا محبوسين وطرح على الباب في قميصه الذي حبس فيه، فقالا:
الحمد لله الذي أراحنا من هذا الفاسق. وغسلاه على الباب ودفناه، فقيل:
إن الكلاب نبشته وأكلت لحمه.
قال: وسمع قبل موته يقول لنفسه: يا محمد؛ ألم تقنعك النعمة، والدواب، والدار النظيفة، والكسوة وأنت في عافية حتى طلبت الوزارة؛ ذُق ما عملت بنفسك، ثم سكت عن ذلك.
وأما هرثمة فإنه هرب من مصير ابن الزيات، بعد أن رفع المتوكل المحنة وأمر بتتبع رؤوس المعتزلة ومحاسبتهم، فاجتاز بقبيلة خزاعة فعرفه رجل من الحي فقال:
“يا معشر خزاعة هذا الذي قتل ابن عمكم أحمد بن نصر فقطعوه، فقطعوه إرباً إرباً، ثم أخرجوا جثته وألقوها في الخرابة فنهشتها الكلاب.
وأما قاضي المحنة ابن أبي دؤاد فقد سجنه الله في جلده – يعني: بالفالج –-ضربه الله قبل موته بأربع سنين، وصودر من صلب ماله بمال جزيل جداً”.
أما الواثق نفسه فقد مات في شرخ شبابه بلا علة ظاهرة، فما كان من أهله إلا أن تركوا جثته بلا تحضير وانشغلوا بأمور البيعة لأخيه المتوكل، فدخل جرذ كبير فنهش لحم خده واستل عينه ومضى بها، فلما دخلوا عليه لتجهيزه وجدوه بهذه الصورة المشوهة.
المصادر:
البدايه والنهاية
سير أعلام النبلاء
#التاريخ_كما_يجب_أن_يكون
#الأتابك