مقالات

(قِصَّةٌ قَصِيرَةٌ) أ. د. لطفي منصور

دَخَلَ الْمَقْهَى وَبَيْنَ إصْبَعَيْهِ لُفافَةُ تِبْغٍ غَيْرِ مُشْتَعِلَةٍ، وَبِالْيَدِ الْأُخْرَى كِبسٌ صَغِيرٌ. ثُمَّ نَظَرَ إلَى زاوِيَةٍ خاوِيَةٍ فِيها نافِذَةٌ مَفْتُوحَةٌ تُطِلَّ عَلَى أَشْجارٍ باسِقَةٍ، حَرَّكَ كُرْسِيًّا قَدِيمًا جُدِلَ مَقْعَدُهُ بِالْحَلْفاءِ.
شَيْخٌ كَبِيرٌ أَكَلَ الزَّمانُ مِنْهُ وَشَرِبَ، قَصُرَ خَطْوُهُ، وَغارَتْ عَيْناهُ الْخَضْراوانِ ، وَسَقَطَتْ أجْفانُهُ الْعُلْيا وَكادَتْ تُخْفي بَرِيقَ عَيْنَيْهِ.
جَلَسَ دَقائِقَ لِيَسْتَرِيحَ مِنَ الْمَشْيِ، وَجالَ بِعَيْنَيْهِ نِصْفِ الْمُغْمَضَتَيْنِ في أَرْجاءِ الْمَقْهَى الشَّعْبِي كَأَنَّهُ يُفَتِّشُ عَنْ أَحَدٍ، ارْتَعَدَتْ يَدُهُ عِنْدَما مَدَّها إلَى جَيْبِهِ الْأَمامِيِّ لِيُخْرِجَ قَدّاحَةً قَدِيمَةً صَديقَةَ عُمْرِهِ، وَأَشْعَلَ سِيجارَتَهُ، وَأَخَذَ نَفَسًا عَمِيقًا، ثُمَّ نَفَثَ دُخانَها بَعِيدًا عَنْ وَجْهِهِ.
تَحَرَّكَ فُضُولِي لِأَعْرِفَ شَيْئًا عَنْ هَذا الشَّيْخِ الَّذِي تَجاوَزَ التِّسْعِينَ مِنْ عُمْرِهِ بِسَنَواتِ لَكِنِّي تَمَهَّلْتُ بَعْضَ الشَّيْءِ لِأَسْتَفيدَ أَكْثَرَ مِنْ مَلامِحِهِ، وَكَأَنَّهُ لا يُحِبُّ الْكَلامَ، وَبانَ هَذا عِنْدَما لَمْ يَنْطِقْ بِالتَّحِيَّةِ عِنْدَ دُخُولِهِ الْمَقْهَى.
دَخَلَ النّادِلُ وَتَقَدَّمَ إلَى الشَّيْخِ وَسَأَلَهْ بِماذا يَخْدِمُهُ، فَأَجابَ الشَّيْخُ بِصَوْتٍ أَجَشَّ: “بَقْرَج”. فَهِمَ النّادِلُ الْمُرادَ، وَبَعْدَ قَليلٍ عادَ النّادِلُ يَحْمِلُ طَبَقًا نُحاسِيًّا أَصْفَرَ اللَّوْنِ وَعلَيْهِ “غَلّايَةُ” قَهْوَةٍ صَفْراءَ، وِبِضْعُ فَناجِينَ دُونَ عُرْوَةِ وَكُوبُ ماءٍ.
مَدَّ الشَّيْخُ يَدَهُ إلَى جَيْبِهِ وَأَخَرَجَ عُلْبَةَ تِبْغٍ فِضِّيَّةً، وَصَنَعَ لَهُ لُفافَةً وَأَشْعَلَها، وَصَبَّ لِنَفْسِهِ فِنْجانَ قَهْوَةِ ارْتَشَفَهُ، فَبانَ عَلَى وَجْهِهِ الرِّضا وَالنَّشْوَةُ.
وَبَعْدَ اسْتِراحَةٍ قَلِيلَةٍ أَخْرَجَ الشَّيْخُ مِنْ الْكِيسِ الصَّغِيرِ نَظّارَةً بِعَدَسَتَيْنِ بَيْضاوَيْنِ ، وَضَعَهُما عَلَى عَيْنَيْهِ، ثُمَّ أَخْرَجَ كُتَيِّبًا وَقَدَّمَهُ إلَى وَجْهِهِ وَأَخَذَ يَقْرأُ الْكِتابَ بِصَمْتٍ.
زادَ فُضُولِي قُوَّةً، وَتَقَرَّرَ عِنْدِي أَنْ أَقْتَحِمَ بِأَدَبٍ عَلَيْهِ مَجْلِسَهُ، لِأَنِّي عَلَى يَقِينٍ أَنَّ عِنْدَهُ الشَّيْءَ الْكَثِيرَ.
-السَّلامُ عَلَيْكُمْ سَيِّدِي
– وَعَلَيْكُمُ السَّلامُ أَخِي.
– أَتَسْمَحُ لِي بِالْجُلوسِ قَليلًا بِجِوارِكَ؟
– عَلَى الرُّحْبِ وَالسَّعَةِ تَفَضَّلْ وَفِنْجانِ قَهْوَةِ الْبَقْرَجِ . قَالَها الشَّيْخُ بِصَرامَةٍ وَشِدَّةٍ وَقُوَّةٍ فَعَرَفْتُ أَنَّ الشَّيْخَ لَمْ تَخُنْهُ عِظامُهُ الَّتِي تَحْتَفِظُ بِصَلابَتِها.
بَعْدَ أَنْ شَرِبْتُ الْقَهْوَةَ نَظَرْتُ إلَى ما في يَدِ الشَّيْخِ ، فَهالَنِي ما رَأَيْتُ”مُخْتاراتُ مَقاماتِ الْهَمَذانِي” فَصِحْتُ: اللَّهُ أكْبَرُ!
– الْمَقامَةُ الْجاحِظِيَّةُ؟
– نَعَمْ أَعْشَقُ هَذا الْأَدَبَ.
– إسْكَنْدَرِيَّةُ دارِي
لَوْ قَرَّ فِيها قَرَّ فِيها قَرارِي
– لَكِنَّ لَيْلِي بِنَجْدٍ
وَبِالْحِجازِ نَهارِي
ثُمَّ أَنْشَدْتُ لَهُ الْقَصِيدَةَ الْبِشْرِيَّةِ الَّتِي مَطْلَعُها:
أَفاطِمُ لَوْ شَهِدْتِ بِبَطْنِ خَبْتٍ
وَقَدْ لاقَى الْهِزَبْرُ أَخاكِ بِشْرا
فَصاحَ قائِلًا: عَلَى رِسْلِكَ أُسْتاذْ وَنَطَقَ بِاسْمِي.
ذُهِلْتُ وَاللَّهِ فَسَأَلْتُ: أَتَعْرِفُنِي أيْضًا شَيْخِيَ الْجَلِيل؟
– نَعَمْ أَعْرِفُكَ عُقُوقُ أَوْلادِي رَماني إلَيْكَ، وَإلَى هَذا الْبَلَدِ الطّيَِبِ أَهْلُهُ، وَضَحِكَ ضُحْكَةً كَبيرَةً.
– حَدْسِي لا يُخْطِئُ عَرَفْتُ أَنَّ عِنْدَكَ الشَّيْءَ الْكَثِيرَ.
– لَكِنْ كَيْفَ عَرَفْتَنِي؟
– هَذِهِ قِصَّةٌ تَطُولُ سَأَخْتَصِرُها لَكَ. أَتَذْكُرُ قَرْيَةَ جَمّالِينْ؟
– وَكَيْفَ لا أَذْكُرُها وَلي فِيها ذِكْرَياتٌ لا تُنْسَى، وَقَدْ مَكَثْتُ فيها شَهْرًا في حَرْبِ الْ (٤٨) حِينَ الْتَجَأْنا إلَيْها صِغارًا، وَقَدْ وَضَعَ أَهْلِي كُلَّ غَلَّتِهِمْ فيها عِنْدَ أَصْدِقاءَ لَهُمْ.
– هَلْ تَذْكُرُ الصَّبِيَّ الْمُشاغِبَ فُلانًا؟
– أَهْلًا عَبْدَ اللَّطيفْ!! وَتَعانَقْنا طَوِيلًا. أَيُّ صُدْفَةٍ جَميلَةٍ هَذِهِ؟ قُلْ لِي: وَالْأَدَبُ وَالْعِلْمُ كَيْفَ وَصَلْتَ إلَيْهِما؟
– ترَكْنا الْقَرْيَةَ وَنَزَحْنا إلَى عَمّانَ، وَأَكْمَلْتُ فيها تَعْليمي الثّانَوِيَّ، ثُمَّ الْتَحَقْتُ بِالْجامِعَةِ الْأرْدُنِيَّةِ، وَدَرَسْتُ اللُّغَةَ الْعَرَبِيَّةَ، وَحَصَلْتُ عَلَى اللَّقَبَيْنِ الْأَوَّلِ وَالثّاني، وَعَمِلْتُ مُدَرِّسًا لِلْعَرَبِيَّةِ في مَدارِسِ عَمّانَ الثّانَوِيَّةِ، وَتَقَدَّمْتُ في سِلْكِ التَّعْليمِ، وَأَصْبَحْتُ مُدِيرًا لِإحْدَى مَدارِسِها الْكُبْرَى
– أَخْبِرْني يا شَيْخِيَ الْجَلِيلْ ما هِيَ حِكايَةُ الْعُقُوقِ الََتِي أَوْصَلَتْكَ إلَيَّ؟
– تَزَوَّجْتُ مِنْ أُرْدِنِيَّةٍ. وَلَدَتْ لي أَرْبَعَةَ ذُكُور وَثَلاثَ إناثٍ، يا لَيْتَ الذُّكُورَ كانُوا إناثًا. كُلُّهُمُ تَعَلَّمُوا في الْجامِعاتِ الْأُرْدُنِيَّةِ وَتَسَنَّمُوا وَظائِفَ إدارِيَّةً، أمّا الْبَناتُ فَذَهَبْنَ إلَى سِلْكِ التَّعْليمِ. لَكِنْ يا حَسْرَتاهُ ونَحْنُ في غِمارِ السَّعادَةِ مَرِضَتِ الْأُمُّ بِمَرَضٍ عُضالٍ ، ما فَتِئَتْ أَنِ اختارَها اللَّهُ إلَى جِوارِهِ. لَقَدْ تَلَقَّيْتُ ضَرْبَةً عَلَى رَأْسِي فَقَدْتُ صَوابِي. مَضَتِ الْأَيّامُ وَأَصْبَحْتُ عِبْئًا عَلَى أوْلادِي وَنِسائِهمْ.
الْبِنْتُ الْبِكْرُ تَزَوَّجَتْ مِنْ أُرْدُنِيِّ جِلْفٍ في عَمّانَ، كانَتْ تَعْطِفُ عَلَيَّ سِرًّا، وَلَمَّا عَلِمَ بِها كادَ أنْ يُطَلِّقَها. أَمّا الْبِنتانِ الْأُخْرَيانِ فَقَدْ تَزَوَّجَتا في الْوَطَنِ مَسْقَطِ رَأْسِي.
أَصْبَحْتُ كَالْكُرَةِ يَتَقاذَفُها أَوْلادِي الْأَرْبَعَةُ. وَساءَتْ أَحْوالِي، لا أَقْدِرُ عَلَى زَواجٍ ثانٍ وَلا أَسْتَطِيعُ الْمُضِيَّ في ما أَنْا فِيهِ مِنَ الْمَرارَةِ وَالْإهانَةِ.
أَخَذَتْ ابنَتايَ في الْوَطَنِ وَزَوْجاهُما يَتَوَسَّلانِ إلَيَّ الرُّجُوعَ إلَى الْوَطَنِ وَقَضاءَ بَقِيَّةِ عُمْرِي تَحْتَ كَنَفِهِما.
وَهَكَذا تَرَكْتُ أَوْلادي وَعُدْتُ إلَى بَلَدي.
وَحَدَثَ أَنَّ أَحَدَ أَحْفادِي كانَ يُعِدُّ نَفْسَهُ لِامتِحانِ التَّوْجيهي، فَرَأى صُدْفَةً عَلَى الفيسبوك دِراسَةً لَكَ عَنِ الشُّعَراءِ الْعُذْرِيِّينَ أُعْجِبْتُ بِها. وَمِنْها دَخَلْنا إلَى صَفْحَتِكَ فَوَجَدْنا بَحْرًا غُصْنا فِيهِ.
تَذَكَّرْتُكَ وَأَنْتَ صَبِيٌّ ضَيْفٌ عِنْدَنا، وَبِيَدِكَ كِتابٌ عُنْوانُهُ “كُنْ قَوِيًّا” طَلَبْتُ مِنْكَ أَنْ أَقْرَأَهُ فَأَعَرْتَنِي إيّاهْ فَقَرَأْتُهُ وَأَنا في أَوَّلِ الشَّبابِ.
– حَدِّثْنِي كَيْفَ وَصَلْتَنِي.
– طَلَبْتُ مِنْ حَفيدَتِي أَنْ تُوصِلَنِي إلَى هَذا الْبَلَدِ الطَّيِّبِ لِنَسْأَلَ عَنَكَ. وَصَلْنا وَسَأَلْنا عَنْكَ فَأَخْبَرَنا أَحُدُهُمْ أَنْكَ تَزُورُ هَذا الْمَقْهَى يَوْمِيًّا. رَجَعْنا أَدْراجَنا. حَضَرْتُ مَرَّتَيْنِ هُنا، جَلَسْتُ عَلَى مَقْعَدٍ خَشَبِيٍّ في حَدِيقَةِ الْمَقْهَى، أَخَذْتُ نَفَسًا مِنَ الْأرٍجِيلَةِ أَرْقُبُ وُصُولَكَ لِأَتَكّدَ أَنَّكَ أَنْتَ الْمَطْلُوبُ.
لَمْ أَرَكَ في الْمَرَّةِ الْأُولَى، فَسَأَلْتُ النّادِلَ فَقالَ يَأْتِي مَعَ جَماعَةٍ مَعَ الظَّهِيرَةِ. وَفي الْمَرَّةِ الثّانِيَةِ رَأَيْتُكَ تَنْزِلُ مِن سَيّارَتِكَ الْفارِهَةِ، بَهِيَّ الطَّلْعَةِ، فَدَخَلَتْ قَلْبِي هَيْبَتُكَ. وَرَجَعْتُ إلَى بَلَدِي لِأَعُودَ ثالِثَةً.
– فارِهَةٌ، بَهِيُّ الطَّلْعَةِ، هَيْبَتُكْ، ما هذا يا شَيْخُ؟
وَهَلْ أَنا إلّا مِنْ غُزَيَّةَ إنْ غَوَتْ
غَوِيتُ وَإنْ تَرْشُدُ غُزَيَّةَ أَرْشُدِ
فَكَبَّرَ الشَّيْخُ وَوَقَفَ كَعَمُودِ الْكَهْرُباءِ اسْتِقامَةً وَصَلابَةً يُريدُ الِانْصِرافَ.
– إلَى أَيْنَ يا شَيْخُ كُنْتُ في ضِيافَتِكُمْ شَهْرًا، وَأَنْتَ لا تَكُونَ ضَيْفي ساعَةً؟
– اُنْظُرْ هَذِهِ حَفيدَتِي حَضَرَتْ. أَعِدُكَ بِزِيارَةٍ وَزِياراتٍ لِأُمَتِّعَ عَيْنَيَّ بِما تَحْوِيهِ مَكْتَبَتُكَ مِنْ كُنُوزِ الْعَرَبِيَّةِ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق