مقالات

قَيْسَ بْنَ الْمُلَوِّحِ

أ.د. لطفي منصور

ما أَعْظَمَ قَيْسَ بْنَ الْمُلَوِّحِ (قَيْسُ لَيْلَى) في هَذِهِ الْأبْياتِ التي خاطَبَ بِها جَبَلَ التَّوْبادِ حَيْثُ كانَ يَلْتَقي مَعَ لَيْلَى: مِنَ الطَّوِيل
وَأَجْهَشْتُ لِلتَّوْبادِ حِينَ رَأَيْتُهُ
وَسَبَّحَ لِلرَّحْمانِ حِينَ رَآنِي
وَقُلْتُ لَهُ: أَيْنَ الَّذِينَ عَهِدْتُهُمْ
بِرَبِّكَ، في خَفْضِ عَيْشٍ لِيانِ
فَقالَ: مَضَوْا وَاسْتَوْدَعُونِي بِِلادَهُمْ
وَمَنْ ذا الَّذي يَغْتَرُّ بِالْحَدَثانِ
وَإنِّي لَأَبْكِي الْيَوْمَ مِنْ حَذَرِيِ غَدًا
وَأَقْلَقُ وَالْحَيّانِ مُجْتَمِعانِ
————-
أَجْهَشَ بِالبُكاءِ: انْتَحَبَ، وَبَكَى دبِصَوْتٍ عالٍ.
سَبَّحَ وَفي رِوايَةٍ كَبَّرَ. أضْفَى الشّاعِرُ التَّأْنِيسَ عَلَى جَبَلِ التَّوْبادُ، وَبَدَأَ بِحِوارٍ رائِعٍ مَعَهُ، عِنْدَما رَأى الْجَبَلُ وَجْهَ قَيْسٍ هَلَّلَ لِذَلِكَ الْحُبِّ الْخالِدِ.
كانَ قَيْسٌ يَزورُ الْجَبَلَ وَقَبيلَةُ عامِرٍ الْعُذْرِيَّةُ نازِلَةٌ بِأَخْبِيَتِها عَلَى سُفوحِهِ، فَكانَتِ الْمُفاجَأَةُ عِنْدَما لَمْ يَجِدْ صَريخًا مِنْهُمْ فَانْتَحَبَ، فَسَأَلَ الْجَبَلَ وَهُوَ يَسْأَلُ نَفْسَهَ، وَتَرْجَمَ دَهْشَتَهُ مِنْ خُلُوِّ الْجَبَلِ مِنْ أَمهْلِهِ، بَعْدَ أنْ هَجَرَتْهُ لَيْلَى بِزَواجِها، وكانَ السُّؤالُ الْكَئِيبُ: أَيْنَ الَّذينَ عَهِدْتُهُمْ في السَّعادَةِ غارِقُون؟؟
اُنْظُروا إلى الصُّورَةِ الشِّعْرَيَّةِ التي رَسَمَها قيسٌ. تَخَيَّلُوهُ واقِفًا عَلَى أَطْلالِ لَيْلَى مُسْتَرْجِعًا تِلْكَ الذِّكْرَياتِ مَعَها وَهُمْا يَسوقانِ الْبَهْمَ، وَيَحْلُمانِ بِرَغَدِ الْعَيْشِ في مُسْتَقْبَلٍ يُنبرُهُ الْحُبُّ وَالْهَناءُ.
كَمْ يَهُزُّني هذا التَّعْبيرُ: مَضَوْا واسْتَوْدَعُوني بِلادَهُمُ. هذا الْوَطَنُ أصْبَحَ وَديعَةً تَحْوِي أجْمَلَ ذِكْرَياتِ الْعِشْقِ الْإنْسانِيِّ حَتَّى يَوْمِنا هَذا.
وَيَنْتَبِهُ قَيْسٌ لِواقِعِهِ وَيُصْحُو فِكْرُهُ، فَكَأَنَّهُ يُخاطِبُ نَفْسَهُ وَيَقُولُ: وَيْحَكَ قَيْسُ!! مَنْ يَغْتَرُ بِصُروفِ الدَّهْرِ، وَمَنْ يَبْقَى مَعَ كَرِّ اللَّيْلِ والنَّهار؟
فَازْدادَ بُكاؤُهُ وَعَرَفَ أنَّ النِّهايَةُ حَتْمِيَّةٌ قَريبَةٌ،
وَعَلَّلَ بُكاءَهُ الحاليَّ بِخَوْفِهِ مِنْ بُكائِهِ الْأَشَدِّ غَدًا، عِنْدَما يَجِدُ لَيْلَى كَأَيِّ امْرَأَةٍ عَرَبِيَّةٍ تُفَضِّلُ الْمَوتَ مُحافَظَةً عَلَى شَرَفِ القَبيلَةِ.
لَقَدْ سَجَّلَ قَيْسٌ وَلَيْلَى أكْبَرَ قِصَّةٍ مَأْساوٍيَّةٍ لِلْحُبِّ الْعُذْرِيِّ ظَهَرَتْ في التّاريخِ، وَتَبِعَهُمْ عُشّاقٌ آخَرونَ دَرَجوا عَلَى خُطاهُما إلّا أنّ عِشْقَهُمْ أَقَلُّ الْتِهابًا مِنْ حُبِّ قَيْسٍ وّلَيْلَى. وَقَدِ انتَهَى هذا الْحُبُّ بِانْتِهاءِ الْعَصْرِ الْأَمَوِيِّ، وَلَمْ يَصْمُدْ أَكثَرَ مِنْ نِصْفِ قَرْنٍ مِنَ الزَّمانِ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق