في شوارعِ البلادِ نلحظهُم، أو في مصحاتٍ خاصةٍ، مواطنونَ عايشوا أقسى الحروبِ… حربُ المخدراتِ في أعصابهم، لم يتبادرْ إلى أذهانهِمْ أنهم قد يبلغون الجنونَ من إدمانِهِمْ، لكنَّ هذا كان تحصيلَ حاصلٍ.
نشوةٌ ففرحٌ لحظيٌّ، معاناةٌ فمرضٌ، مسارٌ قد يطولُ أو يقصرُ؛ لكنَّ النتيجةَ تكونُ متشابهةً في أكثرِ الحالاتِ، أدمنوا فاستمروا حتى اختلّتْ عقولُهُمْ.
هسبريس دقتْ أبوابَ عائلاتٍ اختلتْ عقولُ أفرادٍ منها بسبب تعاطيهم للمخدرات، أخطؤوا في حقِّ أنفسهِمْ وحقِّ مَنْ حولَهُمْ.. البداية كانت من مدينة مكناس، هناك التقينا لطيفة الغرباوي، أم مكلومة، ضاع ثلاثة من أبنائها بسبب المخدرات، فقدوا عقولهم وخرجوا إلى الشارع يأويهم، أما الأم فتمضي اليوم بين هذا وذاك تبحث عن واحد وتطعم الآخر، وتنظف الثالث.
تروي الأم لهسبريس تفاصيل فقدان أبنائها الثلاثة لعقولهم بعد بداية تعاطيهم المخدرات في سن صغيرة، وكانت البداية بالابن الأكبر، والذي كانت بداية المعاناة معه منذ انتقاله للدراسة في المرحلة الثانوية، قائلة: “كان ابني يدرس جيدا وحصّل نقاطا جيدة جدا حتى تحول بين ليلة وضحاها، كان بداية يأتيني بعينين محمرتين وحين أسأله يقول إنه فقط مريض، حتى فجأة زاد الموضوع عن حده وبات لم يعد يقوى على النهوض، ويبيع ملابسه الجيدة”.
وتابعت: “بذلت معه قصارى جهدي؛ لكنني لم أفلح وحتى والده مات حينها بكثرة الهم، فابني وصل إلى مرحلة لم يعد يعي فيها بشيء، حتى حينما مات والده لم يدرِ ولم يتلق فيه التعازي”، وزادت: “منذ تلك اللحظة وابني يعاني الجنون… ضاع الابن الأول، ومن بعده أخواه”.
يغيبُ عن بالِ المتعاطي أن ما يقدمُ عليه له تأثيرٌ مباشرٌ على عقلٍ هو ميزةُ الإنسانِ، يجرّبُ فيعيدُ، يهوّنُ النتيجةَ لكنّها تكونُ مفجعةً، فالمختصونَ يؤكدون وجودَ صلةٍ ما بين الإدمانِ والجنونِ، أو الدهانِ بالاصطلاحِ العلميِّ
محمد بلعيزي، طبيب نفساني اختصاصي في الأمراض النفسية والاضطرابات السلوكية، أكد أن هناك علاقة ما بين الإدمان على المخدرات والجنون أو “الدهان” بكلمة طبية.
وقال بلعيزي، ضمن تصريح لهسبريس، إن “جميع المواد كيفما كان نوعها من الخمر والقنب الهندي والحشيش والاكستازي وكذلك الهيروين والكراك… جميع المواد إلا التبغ تؤدي بطريقة أو بأخرى في وقت ما في تطور السيرة المدمرة إلى الدهان”.
وشدد المختص على أن الإدمان “يمكن أن يدخل الإنسان في دهان وسلوكات غير مضبوطة وتصرفات تؤثر على المجتمع وتنتج عنها أحداث خطيرة”، مؤكدا أن “الشخص يمكن أن يصاب بالدهان من أول تجربة لبعض المخدرات، كما يمكن أن يتأخر لدى البعض الآخر لسنوات؛ فالموضوع يختلف بحسب الشخص والمخدر”.
هسبريس بحثتْ عن حالاتٍ لمن أصيبوا بالجنونِ نتيجةَ إدمانِ المخدراتِ، تنوعتِ القصصُ واختلفتْ، منهم من يهيمُ في الشوارعِ يدعي أنه المهديُّ المنتظرُ، وآخرون وصلوا حد فقدانِ السيطرةِ على أنفسهمْ وارتكابِ جرائمَ فظيعةٍ ضد أقربِ المقربينَ.
تواصل لطيفة الحديث عن قصتها مع أبنائها، قائلة: “ابني الثاني كان يقول لي: كيف حدث هذا لأخي؟ وكيف يمكننا أن نتركه هكذا؟ فاذا به سيصير أكثر منه سيفقد عقله وهو في سن صغيرة جدا، وكذلك الأمر بالنسبة لابني الثالث”، متابعة: “المخدرات التي يتعاطونها أفقدتهم عقولهم في سن صغيرة جدا… لقد جنوا جميعهم”.
المخدرات وتأثيراتها المتنوعة
ربما يكون الجنونُ هو آخرُ المراحلِ؛ لكنَّ أولَّهُ يبدأُ دائما بالإدمانِ، يعرّفُهُ المختصون بأنه مرضٌ، وتصاحبُهُ أمراضٌ أخرى، فلكلِّ نوعٍ من المخدراتِ اضطرابٌ نفسيٌّ مصاحبُ.
عبد الإله هلالي، أستاذ علم النفس المرضي الإكلينيكي ومعالج نفساني، قال إن “جميع الإدمانات لها علاقة بالصحة النفسية، سواء كانت إدمانات سلوكية أو إدمانات مادية أو إدمانات على مخدرات”، مؤكدا أنه “يتغير شكل أو نوع الاضطراب على حسب نوع العقار والمخدر”.
وتابع هلالي خلال لقائه بهسبريس: “المادة المخدرة لها تأثير، وقد تكون لدينا اضطرابات نفسية مختلفة؛ فمثلا الإدمان على الحشيش والقنب الهندي والقات هي مخدرات مثبطة تعمل على كف الجهاز الذهني، فالمثبطات غالبا ما تعمل حالة تخدير للجسم وخاصة جهة الفص والقبل جبهي التي تتوفر على ما يسمى بالوظائف التنفيذية؛ وبالتالي تخلق الكسل وتباطؤ السلوك والاسترخاء، وهي غالبا مفيدة من ناحية أنها مزيلة للألم وللصداع والتشويش على الأفكار ويأخذها الأشخاص الذين يعانون ضغطا شديدا لأنها تعمل على تثبيت الأفكار؛ لكن المشكل أنه في كثرة تثبيت الأفكار قد تكون سببا في اضطرابين: السكيزوفرينيا والاكتئاب”.
وقال أستاذ علم النفس المرضي الإكلينيكي والمعالج النفساني إنه “غالبا الأشخاص الذين لديهم استعداد جيني أو نفسي للاكتئاب بمجرد ما يتناولون القنب الهندي أو الحشيش يمرون بشكل مباشر نحو الاضطرابات الاكتئابية، ناهيك عن ارتباط الحشيش والقنب الهندي بالفصام”.
وشرح الخبير النفسي بأنه “بالإضافة إلى الكف النفسي الحركي القنب الهندي يخلق تثبيت الأفكار ومفارقتها للواقع، إذ نجد الأشخاص الذين يستخدمون القنب الهندي يميلون إلى الحكايات والهلاوس، والفصامي يميل إلى الهلاوس، بقدر ميله إلى الهلاوس نجد أن الحشيش يصبح عاملا محفزا لمرض الفصام”.
وتحدث المختص عن مخدرات أخرى مثلا الكوكايين والهيروين أو “ما يسمى بمخدرات محفزة مثل المخدرات البيضاء”، قائلا إنها “مخدرات محفزة تعمل على تنشيط الفص الجبهي عكس المخدرات الأخرى”.
وشرح هلالي بأن “الشخص الذي يتناول الكوكايين يقظ جدا نشيط جدا وطاقته جد مرتفعة يستعملها الشباب لإبراز القوة، فأحيانا يستعملها الشباب في بعض الأنشطة الجنسية لأنهم يحسون بأن لها فعالية كبرى ويكون يقظا بدرجة 100 في المائة”.
وشدد على أن “اليقظة الذهنية غير الطبيعية بشكل مبالغ فيه باستخدام الكوكايين تؤثر في انهيار اليقظة، إذ غالبا الشخص حينما لا يتناول الكوكايين يحس بالانهيار والخوف والتعب وأيضا بالهلع، وهذا قد يؤدي بشكل مباشر إلى اضطرابات الهلع والتلف في قشرة الدماغ الأمامية؛ مما يؤدي إلى تلف الوظائف التنفيذية، وبالتالي يتسم سلوكه بالهلاوس.. والهلوسة هنا تكون مختلفة الشخص يهلوس إما بالعظمة كأنه شخص عظيم ذو شأن عظيم وبأنه إنسان موهوب، أو يهلوس بالاضطهاد كأنه متابع وأن هناك مخابرات دولية تتابعه أو ما كان يسمى سابقا بالجنون”.
وفيما يرتبط بالحبوب المهلوسة، قال هلالي إنها “في الأصل حبوب طبية تستخدم بشكل علمي في مجال مرضي محدد وتنقسم إلى أقسام عديدة: المصححات والمهدئات ومضادات الاكتئابية والمنومات”، موضحا أن “من يتناولها يتعرض لسقوط الحاجز الاجتماعي الذي يمكننا من التصرف بشكل لائق.. مع الناس نخشى أن نكون في وضع سيء، نخجل من الآخرين.. هذه الأشياء تكسر حين استعمال المضادات الاكتئابية بشكل مبالغ فيه ويصبح مندفعا لا يعرف حدود قد يهاجم الآخرين، والعكس حينما يأخذ مهدئات، إذ يصبح سلوكه متباطئا إلى درجة أن بعض الأشخاص يكونون في وضعية تخدير شامل لا يستطيعون حتى تحريك أفواههم ويسيل حتى لعابه، وهذا يؤدي مع المدة إلى انهيار التوازن الذهني مما يعرضه إلى الإصابة بالاضطرابات النفسية”.
يعدّدُ المختصونَ أسبابَ الإدمانِ؛ منها ما هو داخليٌّ يعبِّرُون عنه بهشاشةٍ داخليةٍ ووجودِ جيناتٍ تجعلُ للشخصِ قابليةً للإدمانِ، ومنها ما هو خارجيٌّ كتأثيرِ الأصدقاءِ أو المحيطِ، أو كمحاولةِ للهربِ من مشاكلِ الحياةِ المختلفةِ.
معطيات رقمية
تؤكدُ آخرُ المعطياتِ الرقميةِ أن معدلَ انتشارِ تعاطي المخدراتِ بين عامةِ السكانِ الذين تبلغُ أعمارُهُم 15 سنة فأكثر يفوقُ 4 في المائة، منهم 2.8 في المائة مدمنونَ على الموادِّ المخدرةِ، وتتعاطى الساكنةُ الأصغرُ سنًّا للمخدراتِ والإدمانِ بشكلٍ متزايدٍ. في المقابلِ، لا تتوفرُ البلادُ سوى على ثمانيةِ عشرَ مركزا لعلاجِ الإدمانِ؛ من ضمنها فقط ثلاثةُ مراكزَ استشفائيةٌ جامعيةٌ بطاقةٍ استيعابيةٍ لا تتجاوزُ ستةً وثلاثينَ سريرا.
حسن البغدادي، رئيس الجمعية الوطنية لمكافحة التدخين والمخدرات، حذر من تنامي ظاهرة الإدمان، قائلا: “اليوم هناك نوع من التنافسية؛ فالبداية تكون بالتبغ ثم ربما القنب الهندي، وربما بعدها الكوكايين أو غيرها، حتى يفقد الشباب عقلهم”.
وحذر البغدادي من غياب مراكز التأهيل؛ ما يدفع الشباب يتركون مدارسهم والانخراط في متاهات خطيرة جدا، والأخطر هو أنه في الوقت الذي يسقط فيه الشباب في هذا الضياع والظلام تغيب مراكز علاج الإدمان في المغرب.. للأسف، في المغرب ككل هناك فقط 3 مراكز؛ أحدها في الدار البيضاء وآخر في سلا والثالث في فاس، بطاقة استيعابية هي 36 سريرا في الوقت الذي في أي حي شعبي أو أي حي صغير نجد مئات الشباب المدمنين”.
وشدد رئيس الجمعية الوطنية لمكافحة التدخين والمخدرات على أنه حتى في حالة رغبة الأهل في علاج أبنائهم وبناتهم فإن الإمكانيات لا تتوفر لهم، إذ يحصلون على مواعيد جد متأخرة ويمكن أن تفقد معهم الرغبة.
عترفُ مسؤولو وزارةِ الصحةِ والحمايةِ الاجتماعيةِ بالحاجةِ إلى مزيدٍ من مراكزِ علاجِ الإدمانِ. أما الطرقُ المتبعةُ فتنقسمُ إلى ثلاثٍ، منها ما هو إكلينيكيٌّ بوصفةٍ طبيةٍ، ومنها ما هو نفسيٌّ تحفيزيٌّ، وآخرُ عقائديٌّ سلوكيٌّ.
فاطمة العماري، رئيسة قسم علاج الإدمان بمستشفى الرازي بسلا، إن “الإدمان مرض مزمن يمس الدماغ، إلا أنه قابل للعلاج بوسائل تطورت بشكل كثير خلال السنوات الأخيرة”.
وقالت العماري إن المغرب حقق خطوة كبيرة في مجال علاج الإدمان مقارنة بعشر سنوات سابقة، مؤكدة أن هناك 3 مراكز علاجية تتوفر فيها أسرة للعلاج الداخلي؛ فيما هناك مؤسسات توفر علاجا خارجيا، وأخرى سيتم افتتاحها مستقبلا، مؤكدة أن أغلب المؤسسات توفر علاجا مجانيا والولوج إليها سهل بعد تعميم التغطية الصحية.
وتابعت العماري قائلة: “مشكل الإدمان يتطور وحتى نوع المخدرات تتغير، فيما الأشخاص الذين يلجون مراكز العلاج نسبتهم ضعيفة جدا مقارنة مع من لا يقبلون على العلاج”.
الرغبةُ والإرادةُ عاملانِ لا يتحققُ الشفاءُ من دونهما، مسارٌ صعبٌ للتخلصِ من الإدمانِ، أما الجنونُ فذلك حديثٌ آخرُ، الصعوبةُ تزدادُ بقدر تأثرِ الدماغِ، فخلاياهُ لا تتجددُ وإعادتُها إلى طبيعتها الأولى أمرٌ شبهُ مستحيلٍ.