مقالات

أَدَبٌ صِرْفٌ. / إ. د. لطفي منصور

ما حَدَثَ بَيْنَ الْهادِي والرَّشِيدِ حَوْلَ الْقَيْنَةِ غادِر:
كانَتْ غادِرُ جارِيَةُ الْخَلِيفَةِ الْعَبّاسِي الْهادِي مِنْ أَحْسَنِ النّاسِ وَجْهًا وَغِناءً، وَكانَ يُحِبُّها حُبًّا شَدِيدًا. بَيْنَما كانَتْ تُغَنِّيهِ يَوْمًا وَهُوَ في قِمَّةِ طَرَبِهِ أَطٍرَقَ فُجْأَةً، وَغَرِقَ في بَحْرٍ مِنَ الْفِكْرِ والسَّهْوِ.
فَسَأَلَهُ أَحَدُ نُدَمائِهِ وَخَواصِّهِ: ماذا يُشْغَلُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟
قالَ الْهادِي: قَدْ وَقَعَ في فِكْرِي أَنَّ الْمَوْتَ قَرِيبٌ مِنِّي، وَأَنَّ أَخِي هارونَ سَيَتَزَوَّجُ جارِيَتي غادِرَ، بَعْدَ أَنْ يَلِيَ الْخِلافَةَ، وَإنِّي أُفَكِّرُ في قَتْلِهِ.
فَقالَ لَهُ: قَتْلُ أَخاكَ وَلِيَّ الْعَهْدِ يُزَعْزِعُ الْمَمْلَكَةَ، وَهُناكَ خَيْرٌ مِنْ ذَلَكَ.
– ما هُوَ؟
– اسْتَقْدِمْهُما وَحَلِّفْهُما أَيْمانًا غَليظَةً أَلّا يَتَزَوَّجا بَعْدَكَ، وَأَشْهِدْ عَلَيْهِما مِنْ آلِ هاشِمٍ.
فَأَمَرَ بِإحْضارِ أَخِيهِ وَعَرَّفَهُ ما خَطَرَ لَهُ، فَأَجابَهُ بِما يُحَبُّ مِنْ ذَلِكَ.
قالَ الْهادِي: لا أَرْضَى حَتَّى تَحْلِفَ أَنِّي مَتَى مِتُّ لا تَتَزَوَّجَها
فَحَلَّفَهُ وَاسْتَوْفَى عَلَيْهِ الْأَيْمانَ:
أَنْ يَحُجَّ راجِلًا، وَطَلاقَ زَوْجاتِهِ، وَعِتْقَ مَمالِيكِهِ، وَتَسْبيلَ ما يَمْلِكُهُ (أيْ يَجْعَلُ ما يَمْلِكُهُ في سَبيلِ اللَّهِ وَيُوقِفُهُ صَدَقَةً جارِيَةً)
ثُمَّ أَحْلَفَ غادِرَ مِثْلَ ذَلِكَ فَحَلَفَتْ.
وَلَمْ يَمْضِ عَلَى ذَلِكَ إلّا شَهْرٌ وَماتَ الْهادِي، وَبُويِعَ الرَّشِيدُ. فَبَعَثَ إلى غادِرَ فَخَطَبَها، فَقالَتْ: كَيْفَ تَصْنَعُ بِالْأَيْمانِ ؟
قالَ: أُكَفَِرُ عَنِ الْكُلِّ وَأَحُجُّ راجِلًا. فَأَجابَتْ وَتَزَوَّجَها وَزادَ شَغَفًا بِها. وَكانَ يَضَعُ رَأْسَها فِي حِجْرِهِ فَتَنامُ فَلا يَتَحَرَّكُ حَتَّى تُفِيقَ.
فَبَيْنَما هِيَ نائِمَةٌ ذاتَ يَوْمٍ اِنْتَبَهَتْ فَزِعَةً وَهِيَ تَبْكِي، فَسَأَلَها عَنْ حالِها فَقالَتْ:
رَأَيْتُ أَخاكَ السّاعَةَ في النَّوْمِ وَهُوَ يُنْشِدُ: مَجْزُوءُ الْكامِلِ
– أَخْلَفْتِ وَعْدِي بَعْدَما
جاوَرْتُ سُكّانَ الْمَقابِرْ
وَحَلَفْتِ لِي (فَراغٌ في الْأَصْلِ)
أَيْمانَكِ الْكُذُبَ الْفَواجِرْ
– وَنَكَحْتِ غادِرَةً أَخِي
صَدَقَ الَّذِي سَمّاكِ غادِرْ
– أَمْسَيْتُ مِنْ أَهْلِ الْبِلَى
وَغَدَوْتِ في الْحُورِ الْعَوائِرْ
(الْعَوائِرُ جَمْعُ الْعائِرَةِ وَهِيَ الْفالِتَةُ)
– لا يَهْنِكِ الْإلْفُ الْجَدِي
دُ وَلا تَدُرْ عَنْكِ الدَّوائِرْ
– وَلَحِقْتِ بِي قَبْلَ الصَّبا
حِ وَصِرْتِ حَيْثُ غَدَوْتُ صائِرْ
وَاللَّهِ يا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَكَأَنِّي أَسْمَعُها، وَكَأَنَّما كَتَبَها في قَلْبِي فَما نَسِيتُ مِنْها كَلِمَةً.
قالَ الرَّشِيدُ: أَضٍغاثُ أَحْلامٍ. قالَتْ: كَلّا. ثُمَّ أَخَذَتْ تَضْطَرِبُ وَتُرْعَدُ، حَتَّى ماتَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَذَلِكَ في سَنَةِ ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق