عندما قمت بزيارة مقر جمعية العمل الوطني الديمقراطي ( وعد ) في منطقة أم الحصم، وهي احدى أكبر الجمعيات السياسية المعارضة في البحرين، لحضور فعالية شبابية، أقامتها شبيبة الجمعية لتكريم أعضاء ( القائمة الوطنية للتغيير) التابعة للجمعية، التي شاركت في انتخابات المجلس النيابي للعام 2006 ، وقد تخللت تلك الفعالية ندوة سياسية حول الانتخابات التشريعية وأفاق المستقبل السياسي، تحدث فيها المهندس عبد الرحمن محمد النعيمي رئيس اللجنة المركزية ل ( وعد ) ، والدكتورة منيرة فخرو، عضو الجمعية وكان الحديث وقتها يدور بشكل موسع حول مواقف السلطة الخاطئة في الانتخابات ودعمها الواضح والمباشر للقوى الاصولية المحسوبة عليها، ولكن لم اسمع في حديث النعيمي أو فخرو شرح الاسباب الحقيقية التي دفعتهم للمشاركة في انتخابات مشوهة ومعروفه نتائجها مسبقا، أو كيف تفسخت التحالفات بين قوي المعارضة التي رصت صفوفها قبل الانتخابات للمطالبة بحدوث تغييرات حقيقية في الدوائر الانتخابية ووقف مهزلة المراكز العامة وغيرها من الامور السياسية والدستورية الشادة، ثم تسابقت مهرولة للحصول على اكبر عدد من المقاعد البرلمانية ضاربة بعرض الحائط المصالح المشتركة والتحالفات والوعود الكثيرة التي وعدت بها قواعدها والجماهير.
وفي هده المناسبة أصر النعيمي، أن يشركني في الحديث لشباب الجمعية، عن التجارب النضالية التي اكتسبتها مع المعارضة في المنافي القسرية ، ورؤيتي حول ما كان يحدث في البحرين خلال سنوات القمع المعتمة، ولاحقا التطورات الجديدة ( في المملكة )، فترددت في بادئ الامر لشعوري بعدم الاستعداد لقول أي شيئ حول تطورات الاوضاع في البحرين بعد ( التغيير الدي اطلق عليه اسم مشروع الاصلاح الديمقراطي ) والدي كنت أنا شخصيا من بين جماهير المعارضين لخطواته المتسرعة والخاطئة، مفضلا الاستماع حول مايدور في الندوة ولكن اصرار الزميل أبو أمل، دفعني للمشاركة والحديث في موضوع فضلت أن يكون مقتصرا فقط على أهم التجارب التي كانت تهتم في الاساس بقضايا شعب البحرين السياسية والحقوقية الدي كان للجبهة الشعبية ولجنة التنسيق بين ( الجبهة الشعبية وجبهة التحرير الوطني البحرينية ) ولجنة الدفاع عن حقوق الانسان في البحرين ، الدور الفاعل لتوصيل صوت شعب البحرين في المحافل العربية والدولية، وتجنبت الحديث عن الوضع الداخلي لقناعتي بأنني لم أستطيع على الاطلاق أن أضيف أي جديد على الواقع المر الذي تعيشه البلاد في ظل الانقلاب على نصوص ميثاق العمل الوطني ودستور البحرين العقدي للعام 1973 وبالمناسبة فانه في بداية الحملة الانتخابية للبرلمان هاتفني النعيمي مستوضحا موقفي من مشاركته في هده الانتخابات ، قائلآ انه لاينسى استشارة رفاقه وسماع رأيهم في الامور الصعبة الدي ينوي إتخادها على المستوى السياسي، فأجبته بصريح العبارة ( انت تعرف موقفي يا أبو أمل ليس فقط من موضوعة الانتخابات التي لاأرى جدوي من قيامها سوى إعلان الدعاية للسلطة والحكم بنجاح مشروعهما ( الديمقراطي ) بل ما أطلق عليه مشروع الاصلاح برمته، ومادمت قد إخترت هده المشاركة فعسى الله أن يوفقك ويكون في عونك ) وبالفعل شارك النعيمي في هده الانتخابات المشوهة والتي لم تحظى باجماع وطني، وتصدى لحرب ضروس مزدوجة قوامها السلطة والحكم وحلافائهم الاقوياء من الاصوليين الدينيين وبقايا أو بعض بقايا من كانوا يطلقون على أنفسهم بالوطنيين القوميين واليساريين، الدين تأمرو عليه واسقطوه بالضربة القاضية في الجولة الثانية من الانتخابات، وبذلك خسرت البحرين وشعبها في المجلس النيابي رمز من رموزها التاريخية المدافعة بحق وحقيقة عن الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان في البلاد ، فالنعيمي لم يظلم أحدا أو يتأمر على أحد ولم يخرب ولم يفجر ولم يطمع في المناصب ولا في جمع المال ولم ينتهز الفرص ولم يخون القضية، ولكنه استطاع أن يقول وبكل شجاعة كلمة حق امام سلطان جائر. وبدلآ من مكافاته وتقديم وسام الشرف الوطني اليه تم التأمر عليه في وضوح السمس الساطعة، وفي مختصر مفيد تحدثت عن بعض الاخطاء القاتلة في ماسمي بمشروع الاصلاح، وكنت مقتنعا بأن هدا المشروع الذي جاء فقط لكي يستر عورات الحكم وليعطيه الشرعية التي كان يفتقدها منذ السنوات الاولى للغزو الخليفي المشؤوم، والتي ارتكبت فيه أخطاء فادحة في حق الشعب ليس مؤهلآ للعطاء والازدهار والتقدم، واما الجمعيات السياسية والقوى الاخرى التي باركت وهللت لهدا المشروع، فأنها أعجز من أن تحقق أهداف التغيير الحقيقي والجوهري الدي ناضلت واستشهدت من أجله اجيال من شعب البحرين، ولكن لم يسعني في هدا المجال سوى توجيه النصح وبعض الارشادات المفيدة لشباب المستقبل، وحثهم على العمل والعطاء المثمر والاستمرا في النضال الواقعي والحقيقي، وقبيل إنصرافي من القاعة بعد انتهاء الندوة، تفاجئت بأحد الاشخاص يهمس في أذني ليقول لي ( كل ماكنت تقوله حول فشل مشروع الاصلاح والمواقف السلبية للجمعيات السياسية هو حقيقة قائمة في البلاد ويجري التستر عليها من أصحاب المشروع وجميع المناصرين له، وان البلاد تحتاج الى قيادات فاعلة وقوية ومقاتلة من أجل الحق وشدد على القول زاعما بان البحرين تحتاج بعد هده الاسقاطات كلها الى ( استخدام اساليب القوة والكفاح الثوري ) والتفت اليه وشددت على يديه وقلت له أن تحقيق المطالب الشعبية من دون وجود جبهة وطنية عريضة ومتماسكة وقادرة على احداث التغيير المطلوب فان الطريق الى قيام دولة المؤسسات والقانون سيكون شاقا وعسيرا جدا .
مأدبة غداء مع أبناء الدراز الاعزاء
كانت الدعوة الكريمة الدي قدمها لي صديق الطفولة والصبا والشباب، وهو أحد المناضلين القدماء في صفوف جبهة تحرير شرق الجزيرة العربية، الدي تعرض للسجن سنة كاملة، بعد المحاكمات السياسية التي إجريت لقيادات الجبهة في العام 1971 ، سيد مصطفى سيد حسين علوي، لتناول طعام الغداء في ضيافته، مناسبة جيدة لارتفاع وتيرة العلاقة التي إنفصمت بيني وبين أبناء قريتي، على مدى أكثر من 25 سنة متواصلة، بسبب النفي القسري المفروض فرضا من قبل النظام في البحرين ، حيث ساهمت جهود الصديق العزيز المرحوم ( أبو علوي ) في دعوة أكثر من عشرين شخص من أبناء القرية لحضور هذه المأدبة، حيث تبادل الجميع أطراف الحديث عن هموم القرية التي هجرتها قسرا منذ ريعان الشباب، وظلت حتى بعد عودتي من المنفى ، قرية مهملة بائسه، شأنها شأن قرى البحرين الموحشة والمنسية ( من أنعام السلطة الحاكمة وترفها ) ، فحدثتهم كثيرا عن معاناة المنافي القسرية وعن نضالات المواطنين البحرينيين المبعدين والمنفيين في مختلف العواصم العربية والعالمية وتجرعهم مرارة العذاب والبعد عن الديار والاهل والاصدقاء والاحبة، وتضحياتهم في سبيل الشعب والوطن حيث تشعبت الاسئلة والاجوبة حول هده القضية الصعبة، في ماهم تحدثوا لي عن الهموم المتزايدة في القرية، وإشتداد وطأة الفقر المدقع لدى عوائل كثيرة بسبب عطالة أبنائها عن العمل وعدم حصولها على أية مصادر للعيش اليومي ، فقال بعضهم ، أن القرية لم يمسها التحديث والتطوير منذ أكثر من 25 سنة كاملة، وهي لاتزال تعاني من تدني مستوى الخدمات الصحية ومياه الشرب الجيدة والصرف الصحي والشوارع المزفلته والاضائة وغيرها من المستلزمات الضرورية الاساسية للحياة اليومية العادية، وقد تعرضت القرية الى حصار شديد وظالم على أيدي قوات الامن والمخابرات طوال سنوات الانتفاضة الدستورية المباركة في تسعينيات القرن الماضي، التي عبثت بأستقرار وامن الناس في هده القرية المسالمة وقصفتهم بالطائرات المروحية والغازات المسيلة للدموع، حتى استشهد برصاص جنودها ثلاثة شهداء أبرار من أبناء القرية، واعداد كبيرة من المعتقلين والمسجونين والموقوفين على ذمة التحقيق، الدين إخدوا عنوة الى مراكز الامن العام، حيث مورست ضدهم هناك أبشع أنواع التعديب الجسدي والنفسي .
يوم رحيل الشهيد المجاهد الشيخ الجمري
اتصل بي هاتفيا في ساعة مبكرة عشية رحيل الشهيد المجاهد الشيخ عبدالامير الجمري، الزميل الناشط السياسي سعيد العسبول، يزف لي خبر حزين ومؤلم للغاية بوفاة الشيخ المجاهد عبدالامير الجمري، دلك الرجل الرمز الدي ضحئ بكل غال ونفيس من أجل الحرية والديمقراطية ونصرة الفقراء والمحرومين في البحرين، والدي داق مرارة السجون والتعديب النفسي والتنكيل بجميع أفراد عائلته من دون وجه حق، واستشهد بعد معاناة شديدة مع الامراض التي تعرض لها في غياهب السجن ، بعد أن ملاء الدنيا وشغل الناس في البحرين بنضالاته المعروفة، ثم حدد معي موعدا للذهاب معه في المساء لتقديم واجب العزاء لعائلة الشهيد الشيخ الجمري، وقال لي انه كان متفقا في الاساس مع الزملاء الاستاذ علي قاسم ربيعة والمهندس هشام عبد الملك الشهابي والمحامي أحمد الشملان والشيخ عيسى الجودر والوجيه جاسم مراد ( وجميعهم كانوا رفاق الشيخ الجمري في لجنة العريضة الشعبية التي قادت نضال الحركة الدستورية في سنوات التسعينات من أجل عودة البرلمان والمواد الحيوية المعطلة من دستور البحرين العقدي للعام 1973، لكي نذهب معا الى قرية بني جمرة لتقديم التعزية لزوجة الشيخ الجمري السيدة الفاضلة ( أم جميل ) وبالفعل دهبنا جميعا في سيارة هشام الشهابي ( أبو عمر ) فشاهدت في تلك الليلة القارسة البرودة قوافل بشرية جرارة وسلسلة على مد العين والبصر من السيارات متجهة الى تلك القرية الصغيرة الوادعة في شمال البلاد، والتي كانت قد إمتلاءت عن بكرة أبيها بالرجال والنساء والشباب والاطفال، يرفعون الرايات السوداء واللافتات، وتنطلق من حناجرهم زغاريد الحزن والبكاء على رحيل أبو الفقراء والمسحوقين في البحرين سماحة الشيخ الجمري، والدي قدم روحه فداء للوطن وشعب البحرين برمته، وقد استمرت قوافل الناس المعزين بوفاة الراحل الكبير، طوال ثلاثة أيام بلياليها تتدفق على جامع سار لقراءة الفاتحة على روحه الطاهرة، بعد أن ووري جثمانه الثرى في مثواه الاخير بمسقط رأسه في قرية بني جمرة شمال البحرين، من خلال موكب جنائزي مهيب شارك فيه عشرات الالآف من المواطنين يتقدمهم أفراد عائلته وعلماء الدين الافاضل والرموز والقيادات الوطنية والاسلامية وبعض المسؤلين الرسميين في الحكومة البحرينية .
النعيمي … شامخا في مجلس بدريه علي وصورته تعانق جدار صالة الجلوس .
قبل أيام قليلة من مغادرتي البحرين متوجها الى مقر إقامتي في الدنمارك، تلقيت دعوة كريمة من الزميلة المناضلة بدريه علي وهي واحدة من الوجوه النسائية المعروفة في ميدان العمل الاجتماعي النسائي في البحرين، وعضو في جمعية العمل الوطني الديمقراطي ( وعد ) وحاليا رئيسة الجمعية البحرينية لمقاومة التطبيع، لحضور مأدبة عشاء في منزلها في المحرق بالقرب من منطقة الحوض الجاف، خصصت لاستضافة بعض أصدقائي المناضلين القدامى، وتركت لي الخيار لدعوة ما شئت من الاصدقاء لحضور هده المأذبة، لتكون المناسبة أشبه بأحتفالية تكريمية بسيطة لمناسبة وجودي في البحرين، ومن أجل أن يستعيد الجميع من خلالها ماتبقى من ذكريات سنوات النضال البعيدة في المنافي القسرية، وكدلك الاوضاع الجديدة القائمة في البلاد بعد الانتخابات البرلمانية الاخيرة، وبعد جولة سريعة في رحاب البيت المكونة على شكل تحفة معمارية بسيطة، لفتت نظري في صالة الجلوس صورة عملاقة للمناضل الرمز عبد الرحمن محمد النعيمي، كانت تعانق الجدار، و كانت تغطي المساحة الاوسع لوجه الصالة، فسألت صاحبة الدعوة السيد بدرية علي، لماذا الصورة كبيرة الى هذا الحد؟ وما معنى عرضها في مكان بارز يكاد أن يشغل ربع جدار الصالة الكبيرة ؟ فأجابت قائلة:” نعم ان تراثه النضالي الاصيل يبقى شامخا في هده الصورة امامنا ( كل هدا ونحن مقصرين في حق ( أبو أمل ) عبد الرحمن النعيمي، المناضل الرمز و ( الاب الروحي ) الذي عودنا على خوض معارك النضال من أجل خدمة هدا الوطن وفقراء هدا الوطن، من دون أن يكل ويتعب، وهو بذلك يستحق منا نحن تلامذته وأبنائه المخلصين، ليس فقط أن تعرض صورته في بيوتنا، وإنما يستحق منا غرسها في صدورنا وقلوبنا وأفئذتنا، وفي المناسبة كان النعيمي، وهو الدي كان قد اصطحبني معه في سيارته بعد عودتي إلى البيت حاضرا معنا في هده المأدبة ، وأظنه كان لم يستمع لهدا الحديث، بسبب إنشغاله بالرد على بعض الاسئلة التي كانت تنهال عليه من الزملاء الحاضرين، حول تطورات الاوضاع في البحرين بعد الانتخابات البرلمانية الاخيرة التي زورت نتائجها السلطة الحاكمة وزجت بالمقربين منها الى معترك السياسة ودخول البرلمان من دون وجه حق، والذي كان النعيمي أحد ضحايا هده الانتخابات المزورة، حيث تأمرت عليه السلطة ومرتزقتها، وحولت فوزه الواضح والصريح في دائرته الانتخابية في قلالي إلى خسارة فادحة، بسبب دفعها دفعا بجحافل الناخبين والاصوات المرتزقة في المراكز العامة لهذه الانتخابات، لكي تصب جميعها في سلة واحدة لصالح منافسه ( الاصولي والموالي للسلطة ) النائب الحالي في البرلمان عيسى أبو الفتح، ولعل النعيمي قد شعر ببعض أطراف الحيث الدي دار بيني وبين السيدة بدريه علي، عندما أشار في جزء من أحاديثه في المجلس والتي إستقطبت اهتمام الجميع نظرا للتحليل السياسي العميق الذي ادلى به النعيمي حول خطورة الاوضاع في البحرين على المديين الراهن والمستقبلي، بعد الانقلاب على نصوص ميثاق العمل الوطني وتزوير الانتخابات وحصار المشاركة الشعبية في صنع قرارات المجتمع، بأن ( الشهداء وضحايا التعذيب والنفي القسري والفقراء والمسحوقين ) في هدا الوطن، هم وحدهم فقط من يستحق التكريم وهم من يجب أن تنشر صورهم في البيوت وتحفر أسمائهم بحروف من ذهب في ساحات وميادين وشوارع البحرين .
وبالفعل كانت المناسبة جيدة وممتعة وشيقة، حيث شارك الجميع في مختلف محاور النقاش، والتي سلطت خلالها الاضواء بشكل خاص على السياسات الخاطئة والعقيمة للسلطة الحاكمة في البلاد، وكيفية السبل الكفيلة بمواجهتها عبر استخدام الوسائل الحضارية السلمية الجديدة والمشروعة لنضالات الشعوب المضطهدة من أجل الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان ، المنصوص عليها في الدساتير والمعاهدات والشرائع الدولية، نأمل أن تتكرر مثل هده المناسبات بين الزملاء المناضلين في البحرين، من أجل التواصل و إثراء مستوى النقاش و الحوار الجاد بينهم، ونشكر بحرارة السيدة بدرية علي، على هذه الدعوة الكريمة .
هاني الريس