نشاطات
طارت العصفورة حسن عبادي/جنين-حيفا
نلتقي اليوم في حضرة “ترانيم اليمامة” الذي يضم شهادات عشر أسيرات فلسطينيات عن مكوثهن مددًا متفاوتة في السجون الإسرائيلية؛ شريفة أبو نجم، تغريد سعدي، عطاف عليان، أريج عروق، لينا جربوني، جيهان دحادحة، نهاد وهدان، منى حسين قعدان، عهود شوبكي ومي الغصين، ولكلّ منهن اسمها، فالأسير ليس مجرّد رقم (مذكرات أسيرات محررات، ضمن دورة الكتابة الإبداعية للأسيرات برعاية مكتبة بلدية بيتونيا، 208 صفحات، إشراف ومتابعة: ابتسام أبو ميالة، مراجعة وتدقيق: آلاء جاد الله القاضي، ط. 2: دار طباق للنشر والتوزيع التي تحمل شعارًا: “نصنع كتابًا يُشرقُ من بين دفتيه مستقبلٌ واعد”).
شهادات كُتبت بصدق وبإحساس عالٍ وبمشاعر متدفقة، يصوّرن فترات الاعتقال وما رافقها من عذاب ومعاناة وألم، أثناء التحقيق والاعتقال وما بعده.
كتبت شريفة علي أبو نجم: “أنا لست كاتبة ولا روائية ولا شاعرة ولا صحفية، أنا فقط كتبت ما أحسسته ولمسته”، وهذه هي الحكاية.
نعم، نحن في بلد المليون أسير؛ لكلّ أسيرة وأسير قصّة وحكاية، وليس بالضرورة أن يكون كاتبًا ليكتبها، ولكن من الضرورة أن تُحكى، وكلّها مجتمعةً تشكّل فسيفساء كامل متكامل لحكاية شعبنا الصادقة والمهمّشة، وآن الأوان لكتابتها، كلّ بلغته وحروفه وقلمه، وهذا الكتاب يشكّل مدماكًا آخر ومحفّزًا على الكتابة وهناك كتاب جماعيّ مرتقب لحرائر الدامون.
اكتفت بعض الأسيرات بسرد تجربة الاعتقال بلغة بسيطة تقريرية للتعبير عن التجربة والمعاناة والألم، بعضهنّ كتب اليوميات داخل زنازين الاحتلال وبعضهن من كتبها لاحقًا، فميّ وليد الغصين ملأت تسعة دفاتر بيومياتها خلال فترة أسرها التي قاربت ستّ سنوات، (وأصدرت لاحقًا “حجر الفُسيفساء”) حيث رأتها “كغيوم ماطرة نركض نحن تحتها نختلس لحظة فرح بعيدًا عن عيون السجّانة ومفاتيحها، وبعض الصفحات كزنزانة صغيرة لكن أكثر الصفحات كحقل ربيع مزهر يسكنه ربيع لا يعرف الأفول”.
جاءت الكتابة كمتنفّس لأسيراتنا، كلّ وحكايتها التي عاشتها وتلازمها ليل نهار، ولمست تشابهًا بالوصف والسرد، وهذا لصالحهن وليس بمأخذ، فالتجربة متشابهة، فظروف الاعتقال متشابهة، وكذلك الزنزانة العارية المعتمة والصخب والضجيج والأصوات التي خارجها.
صوّرت غالبيتهن لحظة الاعتقال الصادمة ورد الفعل الأوّلي لها والعائلة وما يرافقها، ومحاولات الإسقاط الأمني داخل المعتقل ومحاولات الإغراء البائسة.
وصفت شريفة أبو نجم معجزة زرع بذرة عنب تحت شباك الغرفة لتكبر وتنمو وتكبر بسرعة ليصبح عليها ورق عنب ونجحت وزميلاتها عائشة كيوان وعطاف السلايمة بجمع طبخة ورق قمن بتوزيعها على كل الغرف ورقتين لكل أسيرة ليصنعن المعجزة (ص.24)، مشابهًا لما كتبه الأسير الراحل زهير لبادة في قصّة “الوردة الحمراء” التي تصوّر تهريب شتلة نبات زينة منزليّة إلى داخل السجن وزراعتها في وعاء صغير حتى تمّ مصادرتها وإعدامها كما جاء في كتابه “آهات من سجن الرملة”، وما كتبه الأسير محمد مرداوي في كتابه “اغتيال ريحانة”.
صوّرن ولادة ثائرة (ابنة سميحة) داخل السجن التي أرعب اسمها السجّان وأخافه لتستبدله الإدارة ب”أميرة”، وطفولتها السليبة ودورها النضالي.
في الشهادات كلها وصف دقيق لعمليات التعذيب التي يتكرر فيها “الشبِح”؛ استخدام الكرسي الحديدي الثابت في أرضية غرفة التحقيق، الذي يجري ربط المعتقلة من يديها وقدميها إليه، وإبقاؤها على هذه الحالة ساعات طويلة مرهقة لكسر عزيمتها.
تناولت غالبيّتهن “لعنة المفاتيح”؛ حيث يحمل السجّان مفاتيح كثيرة ويبدأ بفتح الباب تلو الآخر، فباتت طقّة المفتاح مربكة، ناهيك عن أنّ الأسير محروم من استعمال المفتاح خلال فترة اعتقاله وأسره، وحين التقيت بكريم يونس في الأسبوع الفائت باغتني وإذ المفتاح في جيبه، استعمله للمرّة الأولى بعد أربعين عامًا ولا يريد مفارقته.
لعنة أخرى هي “الكيس الأسود” المتعفّن ذو الرائحة الكريهة الذي يتعمّد السجّان تغطية رأس الأسيرة وشدّ رباطه كوسيلة تعذيب أخرى.
تناولن الأسيرات في شهاداتهن محاولات المحقّقين الإيقاع بهن بشتى الوسائل لإضعافهن وانتزاع الاعترافات، يتناوب المحققين ويمارسون التمثيل المخادع ما بين محقق مهذب لطيف وآخر شرير، لكن هذه اللعبة والحيلة لم تنجح، مثلها مثل مكر “العصافير”؛ خدعة إدخال نساء متعاونات مع المحققين إلى زنازينهن بحجة أنهن مناضلات تعرضن للتعذيب، لعلهن يحصلن على معلومات من تلك المعتقلة وحين تفشل تلك العصفورة، لا تنجح بأن تأخذ حق أو باطل، تتبخّر من الزنزانة، وكما وصفت الأمر منى قعدان بسخرية سوداوية قاتلة “طارت العصفورة” (ص.178)، وهنا جاءني ما قاله لي الأسير راتب حريبات خلال لقائي الأخير به: “كرّهونا العصافير، كنت في صغري أعشق العصافير وصيدها في البراري، وحين تعرّفت على عصافير آدميّة بتّ أكرهها، وخاصّة بعد تعرّفي على عصافير عوفر ومجيدو، نفس الخطأ يتكرّر، الوقوع مع العصافير، ولم يأخذ شبابنا العبرة ممّا كتبه الصديق وليد الهودلي في “ستائر العتمة”.
ويتكرر كذلك وصفهن الحالات الخاصة بالمرأة المعتقلة حين تأتيها الدورة الشهرية، ومحاولات استغلال المحققين لاحتياجات المرأة للتعاطي مع هذه الحالة، وخاصّة أن هناك أسيرات عشرينيّات لهن احتياجاتهن الخاصة.
ظاهرة أخرى تناولنها وهي زجّهن في غرف السجينات الجنائيات الإسرائيليات، وتعريضهن للأذى على أيدي أولئك النساء للتنكيل بهن وتعذيبهن.
كتبت البعض بلغة شاعريّة وفنيّة جميلة بإحساس مرهف، وعلى سبيل المثال شهادة تغريد سعدي التي كتبت “عدت من عملي منهكة أتصبب قلقًا”، وحين تصف إدخال العميلة/العصفورة إلى زنزانتها، تقول: “العصفورة لم تأخذ من غصني قمحًا ولا حتى فتات شعير”. وكذلك الأسيرة/الفنانة أريج عروق.
لجأت بعضهن للسخرية السوداوية الحارقة؛ فأطلقت الأسيرة عطاف عليان على زنزانتها “المقصورة”، وسخرت الأسيرة لينا جربوني من الطعام المخبّص ونعتته بالمنسف الصهيوني.
كتبت منى قعدان عن تحرّرها من إحدى الحبسات:”على حاجز سالم قذفوني، وأخبروني أنني خرجت، ويمكنني العودة إلى البيت” (ص. 183)، تمامًا كما فعلوا مع صديقي باسل غطاس ساعة تحرّره، أهله ينتظرونه بوابة سجن مجيدو والبوسطة “تهرّبه” من بوابّة خلفيه لتقذف به في شوارع العفولة، وكريم يونس بعد أربعين عام في الزنازين يقذفون به في شوارع رعنانا… ما أشبه اليوم بالأمس.
وأخيرًا أقولها هنا من جنين، وليس محض صدفة؛ هدّد السجّان ووزيره الأسير حسن سلامة بالعقاب حين تم الاحتفال بإشهار كتابه “الحافلات تحترق” بداية الشهر، فجاء الرد سريعًا بإشهار كتاب “ليس مجرد زوج” للأسير الصديق جمال الهور، والأسير العزيز راتب حريبات الذي سنحتفي قريبًا بإشهار إصداره “إغتيال بأسلوب آخر”.
حريّة الوطن بتحرّر كلّ أسرانا، الحريّة لأسرى الحريّة.
***مداخلتي في حفل إشهار “ترانيم اليمامة” يوم السبت 21.01.2023 بدعوة منتدى الأديبات الفلسطيني “مدى” ومكتبة جنين في مركز الطفل الثقافي
Isra Beri
Haneen Ameen
حسان محمد نزال
منى قعدان