مقالات

من هول الصدمة / بقلم رياض الصالح

.ثم تسأليني عن ذلك الرداء الأسود الذي أفضله دوناً عن جميع الألبسة التي يتباهى بها الكثيرون، والتي تتوافق مع نوع المناسبة التي يحضرونها، والظروف التي يعيشونها، وتنتقدينني دائماً على انتقاء ذلك اللون يا عزيزتي، فدعيني أخبرك عن نظرتي الشخصية وفلسفتي الحياتية مع أنها أمور تخصني وتناسبني وحدي، فلا أستهوي استعراضها أمام الآخرين حتى لا أتحمّل ملامةً ولا أكون ذريعة فشلٍ لشخص تأثر بما سمعه مني أو قرأه لي، فأنا أعلم أن النفوس البشرية عوالم مختلفة وأنواع متعددة، لكل واحدة منها بصمة خاصة وتركيبة فريدة لا يلائمها إلا وصفةٌ معينة خاصة يتعين على صاحبها وحده أن يقرر ما يحب فيها وما يكره، وما يُفَضّلُ منها وما يترُك، ولا يكون له ذلك إلا بعد اختبارات عديدة يقوم بها مع ذاته خلال فترة طويلة من الزمن، ليعرف ما يناسبها تمامًا ولا أظنه سيكتشف المناسب إلا بعد معركة وجودية ضخمة وقرارات شجاعة عديدة.
يا سيدتي، ذكرت لي أننا جميعاً نحمل في صدورنا مقابر تصاحب حركاتنا، وبيَّنت لي كذلك أن الآلام لن تفارق الإنسان المتحَرّك الحساس المتَعرِّضُ لشتى المواقف والظروف التي قد يكون منها ما خطَّتهُ يدُه ومنها ما خطَّهُ له الآخرون منذ الولادة وحتى الممات، وسألتني عن جدوى هذا الوصف السوداوي والحرف الحزين المتألم في علاج مثل هذه الحالة الحرجة المتكررة لدى الجميع.
كلنا يا عزيزتي نفتح أعيننا على هذه الحياة أطفالاً متعلمين، ونلبث في أحضان أهالينا أطول فترة حضانةٍ يعيشها كائن حي على ظهر البسيطة، نتجرع من تعاليمهم سنوات طوال، نكتسي بما يلبسوننا، ونأكل ما يطعموننا، ونحفظ ما يحكوه لنا، بلا اعتراض ولا استقلالية تفكير، ولا قدرة حتى على مواجهة خطأ موروث أو تجاوز حدٍّ مرسومٍ قد اتفقوا على عدم تجاوزه، حتى تنضج عقولنا، ونبدأ بالطيران والخروج من الأعشاش محملين بآلاف من الأحلام والآمال التي زُرِعَت فينا بطريقةٍ ما، تملأ عقولنا فرحة التحرر، وتسحرنا السماء بالأمل للتحليق بها، وهذا ما كنا نتلقاه في طفولتنا أثناء خيالنا الخصب الذي نمارسه في قصص ما قبل النوم، وحكاياتِ الأبطال وأساطير الأهوال التي تفوز دوماً بطيبتها وقوتها واستحقاقاتها العالية جداً، ولم نلتفت يوماً إلى الحقائق التي أخفاها عنا الكبار يومها، وأن ما كانوا يزرعونه فينا إنما هي أحلامهم الضائعة وآمالهم فينا للوصول إليها.
لا أريد حصر المسألة بتحميل الذنب لشخص ما، ولكنها الطرق المألوفة المتوارثة من جيل إلى جيل، ولكني أتحدث عن الإنسان بشكل عام إلا بعض الاستثناءات، فبالعموم نحن لم نتلقى تربية وقائية من البداية تعرفنا على حقيقة ما على الأرض من هموم كالجبال، وسهولٌ مكتظة بالمتنافسين على لقمةٍ تعودنا تلقيها سائغة، وصخور الظلم التي تنهك الكواهل، وتسد الطرقات، وصعوبة التواصل البشري ودروب لقاء الأحبة التي تخضع لقوانين السير وقيود العادات، لم نتعلم كيفية صد الضربات لأننا على الغالب لم نتوقعها في عالمنا السمائي الوردي السابق، نحن نُنفى فجأة إلى الأرض السوداء بدون عتاد لازم، لنبدأ بجمع حطب الصدمات لنوقد نيراننا في الصدور، والتي لن تخمد حتى ينقطع الهواء عنها.
أعلم يا عزيزتي أنني أزيد آلامك آلاماً بهذه الحقائق، ولك الحق أن تغضبي أكثر، ولكني لا أبتكر هذا الوصف بقدر ما أذَكّرك به فقط، وأريد منك أن تعلمي أنني وبعد فهمي لهذه الحقائق قد تجاوزت مرحلة الغضب التي كانت تشعل صدري، وبدأت بإدراك الواقع أكثر، وهذا جعلني أتعامل مع أحلامي وآمالي بطريقة فنيّة مميزة، فلست طائراً أعيش في السماء، ولست خلداً يعيش في ظلمة الأرض، وإنما أنا الإنسان الذي يرى السماء فيزهو ويفرح بشمسها وقمرها ويرضى بنهارها وليلها، ثم ينظر إلى الأرض فيختبر تضاريسها، ويرصد تعاريجها، ويرتحلُ في دروبها، ثم لا يأبه بالوصول بقدر ما يحرص على خوض ما يستطيع، ويكتفي بشرف المحاولة، فإن وصل فنعمّا هي، وإن لم يصل فنعمّا له أيضاً، جاءت غَنّت، راحت غَنَّت، هكذا أرحت نفسي، وأطفأت لهيب صدري، وأشبعتُ عيني، ولن أخادع أحداً برسم صورة مزيفة عما أدركته من خبرتي وتجاربي، حتى يكون على حذر ولا تدركه مشاعر العجز من هَول الصدمة.
” ادفِن وجودك في أرض الخمول، فما نبَتَ مِمّا لا يُدفَن، لا يَتِمُّ نِتاجُه” ابن عطاء السكندري

# بقلم
# رياض الصالح

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق