ثقافه وفكر حر
أمراء وقادة
أمراء وقادة
خير الدين بربروس .. أمير البحار
خير الدين بربروس يعرف بأمير البحار وهو أحد أكبر قادة الأساطيل العثمانية وأحد رموز الجهاد البحري، عينه السلطان سليمان القانوني كقائد عام لجميع الأساطيل
خير الدين بربروس .. أمير البحار
هو خير الدين بربروس قائد الأساطيل العثمانية؛ مجاهد بحريٌّ، اشتهر مع أخيه عروج بغزواته البحرية في سواحل اليونان وإسبانيا وإيطاليا، انتزع مدينة الجزائر من إسبانيا، وجعلها تحت سيادة الدولة العثمانية، كما غزا تونس سنة (941هـ= 1534م)، واستولى عليها لحساب العثمانيين، واسمه الأصلي هو خضر بن يعقوب، ولقبه خير الدين باشا، بينما عُرِفَ لدى الأوربيين ببارباروسا (ذو اللحية الحمراء).
نشأة خير الدين بربروس
وُلِدَ خير الدين بربروس في جزيرة لسبوس في اليونان، كان الأصغر في أربعة إخوة: إسحاق وعروج وإلياس ومحمد. والده هو يعقوب وهو انكشاري أو سباهي من فاردار، أمَّا والدته كاتالينا المسيحية؛ فقيل: إنها كانت أرملة قسٍّ.
وقد كان خير الدين وأخوه عروج نصرانيان، ويعملان في القرصنة البحرية، ثم هداهما الله إلى الإسلام فأسلمَا، ودخلَا في خدمة السلطان محمد الحفصي في تونس، وكانا يعترضان السفن النصرانية، ويأخذان ما فيها، ويبيعان رُكَّابها وملَّاحيها رقيقًا، وقد أرسلَا للسلطان العثماني سليم الأول إحدى السفن التي أسروها فقبلها منهما، وأجزل لهما العطاء، فقويت نفسيتهما، وعمل الإخوة الأربعة كبحَّارة ومقاتلين في البحر المتوسط ضدَّ قراصنة فرسان القديس يوحنا، المتمركزين في جزيرة رودس.
جهاد عروج بربروس
قُتِلَ إلياس في إحدى المعارك وأُسر عروج في رودس، الذي ما لبث أن فرَّ منها إلى إيطاليا ومنها إلى مصر، استطاع عروج أن يحصل على مقابلة مع السلطان قانصوه الغوري، الذي كان بصدد إعداد أسطول لإرساله إلى الهند لقتال البرتغاليين، أعطى الغوري عروج سفينة بجندها وعتادها لتحرير جزر المتوسط من القراصنة الأوربيين.
في حوالي عام 1505م استطاع عروج الاستيلاء على 3 مراكب، واتخذ من جزيرة جربة في تونس مركزًا له، ونقل عملياته إلى غرب المتوسط.
طبقت شهرة عروج الآفاق عندما استطاع بين عامي 1504 و1510م إنقاذ الآلاف من مسلمي الأندلس، ونقلهم إلى شمال إفريقيا، وفي عام 1516م استطاع تحرير الجزائر ثم تِلِمْسَان من الإسبان، وأعلن نفسه حاكمًا على الجزائر، واستطاع عروج أن يُقيم حكومة قوية في الجزائر، وأن يطرد الإسبان من السواحل التي احتلُّوها، ويُوَسِّع من نطاق دولته حتى بلغت تِلِمْسَان. وفي هذه الأثناء اتَّصل بالسلطان العثماني سليم الأول، وكان قد تمكَّن من ضمِّ مصر إلى دولته، وأعلن عروج طاعته وولاءه للدولة العثمانية، غير أن إسبانيا هالها ما يفعله عروج ورجاله، ورأت في ذلك خطرًا يُهدِّد سياستها التوسُّعِيَّة، ويقضي على أحلامها ما لم تنهض لقمع هذه الدولة الفتيَّة، فأعدَّت حملة عظيمة بلغت خمسة عشر ألف مقاتل، تمكَّنت من التوغُّل في الجزائر ومحاصرة تِلِمْسَان، ووقع عروج أسيرًا في أيديهم، وقتلوه في (شعبان 924هـ= أغسطس 1518م)، وخلفه أخوه الأصغر خير الدين.
ولاية خير الدين بربروس على الجزائر
خلف خير الدين بربروس أخاه في جهاده ضدَّ الإسبان، ولم تكن قوَّاته تكفي لمواجهة خطر الإسبان، فاستنجد بالدولة العثمانية طالبًا العون منها والمدد؛ فلبَّى السلطان سليم الأول طلبه، وبعث إليه بقوَّة من سلاح المدفعية، وأمدَّه بألفين من جنوده الانكشارية الأشداء، ثم واصل السلطان سليمان القانوني هذه السياسة، ووقف خلف خير الدين يُمِدُّه بالرجال والسلاح.
ولم يكن خير الدين أقلَّ حماسة وغَيْرة من أخيه، فواصل حركة الجهاد، وتابع عملياته البحرية؛ حتى تمكَّن من طرد الإسبان من الجيوب التي أقاموها على ساحل الجزائر، وضمَّ إلى دولته مناطق جديدة، وقادته رغبتُه الجامحة في مطاردة الإسبان إلى غزو السواحل الإسبانية، وهذا الذي أفزع الغزاة، وألقى الهلع في قلوبهم، ثم قام خير الدين بعملٍ من جلائل الأعمال؛ حيث أنقذ سبعين ألف مسلم أندلسي من قبضة الإسبان؛ الذين كانوا يسومُونهم سوء العذاب، فنقلهم في سنة (936هـ= 1529م) مستخدمًا أسطولًا من 36 سفينة؛ وذلك في سبع رحلات، ووَطَّنهم في مدينة الجزائر؛ وهذا ما حصَّنها ضدَّ الهجمات الإسبانية.
خير الدين في إسطنبول
قام السلطان سليمان القانوني باستدعاء خير الدين بربروس إليه في إسطنبول، وعهد إليه بإعادة تنظيم الأسطول، والإشراف على بناء عددٍ من سفنه، ثم وكَّل إليه مهمَّة ضمِّ تونس إلى الدولة العثمانية، قبل أن يتمكَّن السلطان الإسباني شارل الخامس من الاستيلاء عليها، وكانت ذات أهمية كبيرة لموقعها المتوسِّط في السيطرة على الملاحة في حوض البحر المتوسط.
غادر خير الدين العاصمة العثمانية على رأس ثمانين سفينة وثمانية آلاف جندي، واتَّجه إلى تونس، ونجح في القضاء على الدولة الحفصية التي كانت تحكم تونس، وأعلن تبعيَّتها للدولة العثمانية سنة (941هـ= 1534م).
أثار هذا النصر شارل الخامس وزاده حنقًا، ورأى فيه تهديدًا للمواصلات البحرية التي تربط بين إيطاليا وإسبانيا، وانتصارًا للإسلام، وتشجيعًا لمجاهدي شمال إفريقيا على مواصلة الهجوم على السواحل الإسبانية، واستنقاذ المسلمين الأندلسيين؛ ولهذا تحرَّك على الفور، وقاد حملة جرَّارة على تونس، تمكَّنت من الاستيلاء عليها في السنة نفسها، وردَّ خير الدين على هذا الانتصار بغارة مفاجئة على جزر البليار في البحر المتوسط، فأسر ستة آلاف من الإسبان، وعاد بهم إلى قاعدته في الجزائر، ووصلت أنباء هذه الغارة إلى روما وسط احتفالات البابوية بانتزاع تونس من المسلمين.
خير الدين بربروس وقيادة الأسطول العثماني
أراد السلطان سليمان القانوني مكافأة خير الدين على جهوده وخدماته للإسلام، فعيَّنه قائدًا عامًّا للأسطول العثماني، وجعل ابنه حسن باشا واليًا على الجزائر، الذي واصل جهود أبيه في مهاجمة الإسبانيين في غرب البحر المتوسط.
وقاد خير الدين بربروس عدَّة حملات بحرية مُوَفَّقة، كان من أشهرها انتصاره العظيم في معركة بروزة بالبحر المتوسط؛ فقد كانت معركة هائلة تداعت لها أوربا؛ استجابة لنداء البابا في روما، فتكوَّن تحالف صليبي من 600 سفينة، تحمل نحو ستين ألف جندي، ويقوده قائد بحري من أعظم قادة البحر في أوربا هو «أندريا دوريا»، وتألَّفت القوات العثمانية من 122 سفينة، تحمل اثنين وعشرين ألف جندي، والتقى الأسطولان في بروزة في 4 من جُمَادَى الأولى 945 هـ= 28 من سبتمبر 1538م، وفاجأ خير الدين خصمه قبل أن يأخذ أهبته للقتال، فتفرَّقت سفنه من هول الصدمة، وهرب القائد الأوربي من ميدان المعركة؛ التي لم تستمرّ أكثر من خمس ساعات، تمكَّن في نهايتها خير الدين بربروس من حسم المعركة لصالحه.
معركة بروزة – خير الدين بربروس وجهاده ضد الأسطول الأسباني
وقد أثار هذا النصرُ الفزعَ والهلعَ في أوربا، وأعاد للبحرية العثمانية هيبتها في البحر المتوسط، في الوقت الذي استقبل فيه السلطان سليمان القانوني أنباء النصر بفرحة غامرة، وأمر بإقامة الاحتفالات في جميع أنحاء دولته.
خير الدين بربروس يغزو فرنسا
كانت فرنسا ترتبط بعلاقات وثيقة مع الدولة العثمانية في عهد سليمان القانوني؛ ولذلك لم يتأخَّر السلطان عن تقديم المساعدات الحربية التي طلبها منه فرانسوا الأول ملك فرنسا؛ وذلك أثناء الحرب التي اشتعلت من جديد بينه وبين الإمبراطور شارل الخامس حول دوقية ميلان شمال إيطاليا.
كلَّف السلطان سليمان القانوني قائده الباسل خير الدين بربروس بقيادة الحملة، وكانت هذه آخر مرَّة يقود فيها إحدى حملاته المظفرة، فغادر إسطنبول في 23 من صفر 950هـ= 28 من مايو 1543م على رأس قوة بحرية كبيرة، استولت -وهي في طريقها إلى فرنسا- على مدينتي «مسينة» التابعة لصقلية، و«ريجيو» الإيطالية دون مقاومة، ثم استولت على ميناء «أوستيا» الإيطالي، وواصلت سيرها حتى دخلت ميناء طولون (قاعدة البحرية الفرنسية في البحر المتوسط)، ورفعت السفينة الفرنسية المستقبلة لهم الأعلام العثمانية، وأطلقت مدافعها تحيَّة لها، ودخل الأسطول الفرنسي المكوَّن من أربع وأربعين قطعة تحت إمرة خير الدين، وتحرَّك الأسطولان إلى ميناء «نيس»، ونجحَا في استعادة الميناء الفرنسي في (21 من جمادى الأولى 950هـ= 22 من أغسطس 1543م).
ميناء طولون قاعدة إسلامية
ونظرًا للعلاقة الحسنة التي كانت تربط السلطان سليمان القانوني بفرانسوا الأول؛ فقد تمَّ عقد معاهدة بين الدولتين بعد استعادة ميناء نيس في (16 من جمادى الآخرة 950هـ= 16 من سبتمبر 1543م)، تنازلت فيها فرنسا عن ميناء طولون الفرنسي برضاها للإدارة العثمانية، وتحوَّل الميناء الحربي لفرنسا إلى قاعدة حربية إسلامية للدولة العثمانية، التي كانت في حاجة ماسَّة إليه؛ حيث كان الأسطول العثماني يُهاجم في غير هوادة الأهداف العسكرية الإسبانية، التي كانت تُهدِّد دول المغرب الإسلامي والملاحة في البحر المتوسط.
وفي الفترة التي تمَّ فيها تسليم ميناء طولون إلى الدولة العثمانية أُخلي الثغر الفرنسي من جميع سكانه بأوامر من الحكومة الفرنسية، وتحوَّل إلى مدينة إسلامية عثمانية، رُفع عليها العلم العثماني، وارتفع الأذان في جنبات المدينة، وخلال ثمانية أشهر شنَّ العثمانيون هجمات بحرية ناجحة بقيادة خير الدين على سواحل إسبانيا وإيطاليا.
وفاة خير الدين بربروس
كانت هذه الحملة المظفَّرة هي آخر حملة يقودها خير الدين بربروس، فلم تطُلْ به الحياة بعد عودته إلى إسطنبول؛ حيث تُوُفِّيَ في 5 من جُمَادَى الأولى 953هـ= 4 من يوليو 1546م عن 65 عامًا في قصره المطلِّ على مضيق البوسفور بالآستانة، مسطِّرًا صفحة مجيدة من صفحات التضحية والفداء والإخلاص للإسلام، وردع القوى الصليبية الباغية.
قصه الإسلام
د. راغب السرجاني